lundi 23 avril 2018

ناصر عزيز -سورة البينة جزء1




والسورة تعرض عدة حقائق تاريخية وإيمانية في أسلوب
تقريري هو الذي يرجح أنها مدنية إلى جانب الروايات القائلة بهذا
.



والحقيقة الأولى هي أن بعثة الرسول ـ صلى الله عليه
وسلم ـ كانت ضرورية لتحويل الذين كفروا من أهل الكتاب ومن المشركين عما كانوا قد
انتهوا إليه من الضلال والاختلاف، وما كانوا ليتحولوا عنه بغير هذه البعثة
:



{
لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين
حتى تأتيهم البينة: رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة، فيها كتب قيمة
}..



والحقيقة الثانية: أن أهل الكتاب لم يختلفوا في دينهم
عن جهالة ولا عن غموض فيه، إنما اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم وجاءتهم البينة:
{وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة}
.



والحقيقة الثالثة: أن الدين في أصله واحد، وقواعده
بسيطة واضحة، لا تدعو إلى التفرق والاختلاف في ذاتها وطبيعتها البسيطة اليسيرة:
{وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء، ويقيموا الصلاة ويؤتوا
الزكاة، وذلك دين القيمة}
.



والحقيقة الرابعة: أن الذين كفروا بعد ما جاءتهم
البينة هم شر البرية، وأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم خير البرية. ومن ثم
يختلف جزاء هؤلاء عن هؤلاء اختلافاً بيناً
:



{
إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم
خالدين فيهآ. أولـئك هم شر البرية. إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولـئك هم خير
البرية، جزآؤهم عند ربهم جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا، رضى
الله عنهم ورضوا عنه، ذلك لمن خشي ربه
}..



وهذه الحقائق الأربع ذات قيمة في إدراك دور العقيدة
الإسلامية ودور الرسالة الأخيرة. وفي التصور الإيماني كذلك. نفصلها فيما يلي
:



{
لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين
حتى تأتيهم البينة: رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة، فيها كتب قيمة
}.



لقد كانت الأرض في حاجة ماسة إلى رسالة جديدة. كان
الفساد قد عم أرجاءها كلها بحيث لا يرتجى لها صلاح إلا برسالة جديدة، ومنهج جديد،
وحركة جديدة. وكان الكفر قد تطرق إلى عقائد أهلها جميعاً سواء أهل الكتاب الذين
عرفوا الديانات السماوية من قبل ثم حرفوها، أو المشركين في الجزيرة العربية وفي خارجها
سواء
.



وما كانوا لينفكوا ويتحولوا عن هذا الكفر الذي صاروا
إليه إلا بهذه الرسالة الجديدة، وإلا على يد رسول يكون هو ذاته بينة واضحة فارقة
فاصلة: {رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة}.. مطهرة من الشرك والكفر {فيها كتب
قيمة}.. والكتاب يطلق على الموضوع، كما يقال كتاب الطهارة وكتاب الصلاة، وكتاب
القدر، وكتاب القيامة، وهذه الصحف المطهرة ـ وهي هذا القرآن ـ فيها كتب قيمة أي
موضوعات وحقائق قيمة
..



ومن ثم جاءت هذه الرسالة في إبانها، وجاء هذا الرسول
في وقته، وجاءت هذه الصحف وما فيها من كتب وحقائق وموضوعات لتحدث في الأرض كلها
حدثاً لا تصلح الأرض إلا بهجاء في الفصل الأول من الباب الأول
:



كان القرن السادس والسابع لميلاد المسيح من أحط أدوار
التاريخ بلا خلاف. فكانت الإنسانية متدلية منحدرة منذ قرون وكان الإنسان في هذا
القرن قد نسي خالقه، فنسي نفسه ومصيره، وفقد رشده، وقوة التمييز بين الخير والشر،
والحسن والقبيح. وقد خفتت دعوة الأنبياء من زمن،


"
أصبحت الديانات العظيمة فريسة العابثين
والمتلاعبين؛ ولعبة المجرمين والمنافقين، حتى فقدت روحها وشكلها،


وقد أشار القرآن إلى مظاهر الكفر الذي شمل أهل الكتاب
والمشركين في مواضع شتى
..



من ذلك قوله عن اليهود والنصارى{وقالت
اليهود عزير ابن الله. وقالت النصارى المسيح ابن الله
}{وقالت
اليهود ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى ليست اليهود على شيء
}



وقوله عن اليهود{وقالت
اليهود: يد الله مغلولة. غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا. بل يداه مبسوطتان ينفق كيف
يشاء
}



وقوله عن النصارى{لقد
كفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم
} {لقد
كفر الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة
}





ومن ثم اقتضت رحمة الله بالبشرية إرسال رسول من عنده
يتلو صحفاً مطهرة فيها كتب قيمة. وما كان الذين كفروا من المشركين ومن الذين أوتوا
الكتاب ليتحولوا عن ذلك الشر والفساد إلا ببعثة هذا الرسول المنقذ الهادي المبين
..



ولما قرر هذه الحقيقة في مطلع السورة عاد يقرر أن أهل
الكتاب خاصة لم يتفرقوا ويختلفوا في دينهم عن جهل أو عن غموض في الدين أو تعقيد.
إنما هم تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم العلم ومن بعد ما جاءتهم البينة من دينهم
على أيدي رسلهم
:



{
وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم
البينة
}..



وكان أول التفرق والاختلاف ما وقع بين طوائف اليهود
قبل بعثة عيسى ـ عليه السلام ـ فقد انقسموا شعباً وأحزاباً. مع أن رسولهم هو موسى
ـ عليه السلام ـ وكتابهم هو التوراة. فكانوا طوائف. ولكل طائفة سمة واتجاه. ثم كان
التفرق بين اليهود والنصارى، مع أن المسيح ـ عليه السلام ـ هو أحد أنبياء بني
إسرائيل وآخرهم، وقد جاء مصدقاً لما بين يديه من التوراة، ومع هذا فقد بلغ الخلاف
والشقاق بين اليهود والمسيحيين حد العداء العنيف والحقد الذميم. وحفظ التاريخ من
المجازر بين الفريقين ما تقشعر له الأبدان
.



"
ثم كان التفرق والاختلاف بين النصارى أنفسهم، مع
أن كتابهم واحد ونبيهم واحد. تفرقوا واختلفوا أولاً في العقيدة. ثم تفرقوا
واختلفوا طوائف متعادية متنافرة متقابلة. وقد دارت الخلافات حول طبيعة المسيح ـ
عليه السلام ـ وحكى القرآن قولين منها أو ثلاثة في قوله
{لقد كفر الذين قالوا: إن
الله هو المسيح ابن مريم
} {لقد
كفر الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة
} {وإذ
قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس: اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟
}



"

وكان هذا الخلاف كله بين أهل الكتاب جميعاً {من بعد ما
جاءتهم البينة}.. فلم يكن ينقصهم العلم والبيان؛ إنما كان يجرفهم الهوى والانحراف
.



على أن الدين في أصله واضح والعقيدة في ذاتها بسيطة:



{وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين
حنفاء، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} وهذه هي قاعدة دين الله على
الإطلاق
:



عبادة الله وحده، وإخلاص الدين له، والميل عن الشرك
وأهله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة: {وذلك دين القيمة}.. عقيدة خالصة في الضمير،
وعبادة لله، تترجم عن هذه العقيدة، وإنفاق للمال في سبيل الله، وهو الزكاة.. فمن
حقق هذه القواعد، فقد حقق الإيمان كما أمر به أهل الكتاب، وكما هو في دين الله على
الإطلاق. دين واحد. وعقيدة واحدة، تتوالى بها الرسالات، ويتوافى عليها الرسل.. دين
لا غموض فيه ولا تعقيد. وعقيدة لا تدعو إلى تفرق ولا خلاف، وهي بهذه النصاعة، وبهذه
البساطة، وبهذا التيسير. فأين هذا من تلك التصورات المعقدة، وذلك الجدل الكثير؟




فأما وقد جاءتهم البينة من قبل في دياناتهم على أيدي
رسلهم؛ ثم جاءتهم البينة، حية في صورة رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة؛ ويقدم لهم
عقيدة، واضحة بسيطة ميسرة، فقد تبين الطريق. ووضح مصير الذين يكفرون والذين يؤمنون
:



{
إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم
خالدين فيها أولـئك هم شر البرية. إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولـئك هم خير
البرية. جزآؤهم عند ربهم جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا. رضى
الله عنهم ورضوا عنه، ذلك لمن خشي ربه
}..



إن محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو الرسول الأخير؛
وإن الإسلام الذي جاء به هو الرسالة الأخيرة. وقد كانت الرسل تتوالى كلما فسدت
الأرض لترد الناس إلى الصلاح. وكانت هناك فرصة بعد فرصة ومهلة بعد مهلة، لمن
ينحرفون عن الطريق فأما وقد شاء الله أن يختم الرسالات إلى الأرض بهذه الرسالة
الأخيرة الجامعة الشاملة الكاملة، فقد تحددت الفرصة الأخيرة، فإما إيمان فنجاة،
وإما كفر فهلاك. ذلك أن الكفر حينئذ دلالة على الشر الذي لا حد له، وأن الإيمان
دلالة على الخير البالغ أمده
.



{إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في
نار جهنم خالدين فيها. أولئك هم شر البرية} حكم قاطع لا جدال فيه ولا محال. مهما
يكن من صلاح بعض أعمالهم وآدابهم ونظمهم ما دامت تقوم على غير إيمان، بهذه الرسالة
الأخيرة، وبهذا الرسول الأخير. لا نستريب في هذا الحكم لأي مظهر مظاهر الصلاح، المقطوعة
الاتصال بمنهج الله الثابت القويم
.



{
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أولئك هم خير البرية}.



حكم كذلك قاطع لا جدال فيه ولا محال. ولكن شرطه كذلك
واضح لا غموض فيه ولا احتيال. إنه الإيمان. لا مجرد مولد في أرض تدعى الإسلام، أو
في بيت يقول: إنه من المسلمين. ولا بمجرد كلمات يتشدق بها الإنسان! إنه الإيمان
الذي ينشئ آثاره في واقع الحياة: {وعملوا الصالحات}. وليس هو الكلام الذي لا يتعدى
الشفاه! والصالحات هي كل ما أمر الله بفعله من عبادة وخلق وعمل وتعامل. وفي أولها
إقامة شريعة الله في الأرض، والحكم بين الناس بما شرع الله. فمن كانوا كذلك فهم
خير البرية
.



{
جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار
خالدين فيها أبداً
}..



جنات للإقامة الدائمة في نعيمها الذي يمثله هنا الأمن
من الفناء والفوات. والطمأنينة من القلق الذي يعكر وينغص كل طيبات الأرض.. كما
يمثله جريان الأنهار من تحتها، وهو يلقي ظلال النداوة والحياة والجمال
!



ثم يرتقي السياق درجة أو درجات في تصوير هذا النعيم
المقيم
:



{
رضي الله عنهم ورضوا عنه}..



هذا الرضا من الله وهو أعلى وأندى من كل نعيم.. وهذا
الرضا في نفوسهم عن ربهم. الرضا عن قدره فيهم. والرضا عن إنعامه عليهم. والرضا
بهذه الصلة بينه وبينهم. الرضا الذي يغمر النفس بالهدوء والطمأنينة والفرح الخالص
العميق
..



إنه تعبير يلقي ظلاله بذاته.. {رضي الله عنهم ورضوا
عنه} حيث يعجز أي تعبير آخر عن إلقاء مثل هذه الظلال
!

ذلك لمن خشي ربه}.



وذلك هو التوكيد الأخير. التوكيد على أن هذا كله متوقف
على صلة القلب بالله، ونوع هذه الصلة، والشعور بخشيته خشية تدفع إلى كل صلاح،
وتنهى عن انحراف.. فالذي يخشى ربه حقاً لا يملك أن يُخطر في قلبه ظلاً لغيره من
خلقه. وهو يعلم أن الله يرد كل عمل ينظر فيه العبد إلى غيره معه، فهو أغنى الشركاء
عن الشرك. فإما عمل خالص له، وإلا لم يقبله
.



تلك الحقائق الأربعة الكبيرة هي مقررات هذه السورة
الصغيرة، يعرضها القرآن بأسلوبه الخاص، الذي يتجلى بصفة خاصة في هذه السور القصار
..

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire