تفسير
دعاء عباد الرحمن: والذين يقولون ربنا أصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما إنها ساءت مستقرا ومقاما
الحمد لله
ذي البطش الشديد، المبدئ والمعيد، الفعال لما يريد، المنتقم لمن عصاه بالنّار
بعد الإنذار والوعيد، المكرم لمن خافه واتقاه بدار لهم فيها من كلّ خير مزيد،
فسبحانه من قسّم خلقه قسمين وجعلهم فريقين "فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ "هود/105، وأشهد ألا
إله إلا الله وحده ذو العرش المجيد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيّد العبيد،
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد،
عباد الله: "اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ
إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ "آل عمران: 102، "يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ "الحشر/18.
|
أيّها
المسلمون، لا زلنا نعيش مع صفات عباد الرحمن الذين يبيتون لربهم سجدا وقياما
داعين ربهم متوسلين وهم يقولون : ربنا أصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما
إنها ساءت مستقرا ومقاما ،نسأل الله أن
يعيذنا منها ومن نارها ، وهذا موضوع خطبتنا اليوم بحول الله وعونه، وهذا هو
الخطاب الذي يتميّز به القرآن :بين التّرغيب والتّرهيب كأداة نخشى بها الله
تعالى لذلك فقد وصف الله لنا بالدّقة والتّفصيل شدّة عذابه ودار عقابه التي
أعدّها لمن عصاه ، وذكر النّار وما أعدّه فيها لأعداء دينه من العذاب والنّكال،
وما احتوت عليه من الزقوم والضريع والحميم والسلاسل والأغلال....إلى غير ذلك مما
فيها من العظائم والأهوال.
نتحدّث اليوم عن النّار علّ حديثنا هذا ،يكون قامعا للنفوس عن شهواتها وفسادها،
فإنّ النّفوس ولا سيّما في هذه الأزمان قد غلب عليها الكسل والتّخاذل، واسترسلت
في شهواتها وأهوائها وتمنّت على الله الأماني، وانغمست في الدّنيا وملهيّاتها،
بل إنّ الكثير من النّاس، قد ارتدّوا عن دينهم، واختلقوا لأنفسهم الأعذار في
المعاصي التي اقترفوها، وفي الذّنوب التي ارتكبوها، هؤلاء صدق فيهم قوله
تعالى:" أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ
اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ "فاطر8
هؤلاء
،اتّبعوا خطوات الشّيطان فأضلّهم عن السّبيل، فأحلّ لهم الحرام، فاستباحوا
المنكرات، واقترفوا المعاصي والموبقات، بل سوّلت لهم أنفسهم تغيير أحكام الشّرع
الحكيم لتحقيق شهواتهم وخدمة مصالحهم...هؤلاء ليس لهم إلاّ النّار إن لم يرجعوا
عن غيّهم قبل أن توافيهم المنيّة.
أيّها
الإخوة الكرام : نتحدّث اليوم عن النّار، في زمن قست فيه القلوب، وشغلتنا
الدّنيا وملهيّاتها، ودوّختنا السّياسة وتناقضاتها، كلّ هذا، علاجه الرّجوع إلى
الله والخوف من عقابه وهذا ما كان يدأب عليه الصّحابة الكرام بين
الحين والحين بالكلام في الرّقائق وتذكّر الآخرة ، وهذا ما كان يتعاهد به النبيّ
الأكرم صلّى الله عليه وسلّم أصحابه، يعضهم ويذكّرهم ،يفرغهم ويملؤهم فتذرف منهم
العيون وتوجل منهم القلوب وترتعد منهم الفرائص، يقف رسول الله يخاطب
أصحابه بكلمات يسيرات فيقول: ((إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون،
أطّت السماء وحق لها أن تئطّ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته
ساجدًا لله، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا وما تلذذتم
بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله))، فما هو إلا أن ينتهي
من كلامه عليه الصلاة والسلام حتى يخفض الصحابة رؤوسهم ويكبّوا بوجوههم ولهم
ضجيج وخنين بالبكاء. ونحن اليوم في زمن البلايا والفتن أكثر منهم حاجة
،لأنّنا ضعاف الإيمان، غارقون في ملذّات الدّنيا وشهواتها، فأنفسنا بحاجة
إلى أن نذكّرها بالمواعظ والنّذر، وأن نذكّرها بما خوّف الله به عباده وحذّرهم
منه، وقد حذّر سبحانه وتعالى عباده أشدّ التحذير، وأنذرهم غاية الإنذار من عذاب
النار من دار الخزي والبوار، فقال جل جلاله وتقدست أسماؤه: فَأَنْذَرْتُكُمْ
نَارًا تَلَظَّى الليل: 14، وقال: إِنَّهَا لإٍحْدَى الْكُبَرِ نَذِيرًا
لِلْبَشَرِ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَالمدثر:
35-37. فوالله، ما أنذر العباد وخوّفهم بشيء قطّ هو أشدّ وأدهى من النّار؛ وصف
لهم حرّها ولظاها، وصف لهم طعامها وشرابها، وصف أغلالها ونكالها، وصف حرارتها
وغايتها، وصف أصفادها وسرابيلها، وصف ذلك كلّه حتى إنّ من يقرأ القرآن بقلب
حاضر، ويسمع ما قال تعالى عن جهنّم، فكأنما أقيم على شفرها، فهو يراها رأي عين،
يرى كيف يحطم بعضها بعضا، كأنّما يرى أهل النار يتقلّبون في دركاتها ويجرجرون في
أوديتها، كلّ ذلك من المولى جلّ وعلا إنذار وتحذير.
وكذا خوّف نبينا عليه الصلاة والسلام من النار وأنذر
وتوعّد وحذّر، وكان شديد الإنذار شديد التحذير من النار، وقف مرّة على منبره
فجعل ينادي ويقول:((أنذرتكم النار، أنذرتكم النار، أنذرتكم النار)) وعلا
صوته حتى سمعه أهل السوق جميعا، وحتى وقعت خميصة كانت على كتفيه ،
فوقعت عند رجليه من شدة تأثّره وانفعاله بما يقول، وقال عليه الصلاة والسلام: ((أنا
آخذ بحجزكم عن النار وأقول: إياكم وجهنم والحدود، إياكم وجهنم والحدود)) فهو آخذ
بحجز أمته ويقول: ((إيّاكم عن النار، هلّم عن النار)) ومع ذلك فالنّاس
معرضون لا يبالون....لأنّ الحديث عن النّار أصبح خافتا لا تكاد تتحرك به ولا
تستشعره القلوب، ولا تذرف منه العيون، حديثا غريبا على المسامع بعيدا عن النفوس
مع أن ربنا جل جلاله قد ذكّرنا بها غاية التذكير وحذّرنا غاية التحذير، فإن سألت
عن النار فقد سألت عن دار مهولة وعذاب شديد، إن سألت عن حرها وقعرها وحيّاتها
وزقّومها وأصفادها وأغلالها وعذابها وأهوالها وحال أهلها فما ظنّك بنار أوقد
عليها ألف عام حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف عام حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف
عام حتى اسودت فهي سوداء مظلمة. ما ظنك بحرّها، نارنا هذه جزء واحد من سبعين
جزءا من نار جهنم.
وقودها ودركاتها :
وقود النار: واحذر –أخي الكريم- أن تلهيك الدنيا فتكون وقوداً لجهنم, فإنما وقودها الناس والحجارة, قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة } وقال فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِين } (البقرة 24) فالناس هم الوقود وهم المعذبون.. فسبحان الخالق القادر. دركات النار: وكما أن الجنة درجات ومنازل فإن النار دركات مختلفة, بحسب إجرام أهلها, وأعمالهم في الدنيا, قال تعالى:{ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا }(النساء145) وهي فالمنافقون في الدرك الأسفل من النار لغلظ إيذائهم للمؤمنين وغلظ كفرهم
ألوان العذاب في جهنم:
أما عذاب جهنم فإنه ألوان وأشكال متعددة. بحسب تنوع دركاتها وإجرام أهلها وما قدموه من السيئات والآثام في الدنيا. قال تعالى:{ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة 81) وهذه الآية نزلت في الكفار خاصة فسيئاتهم تحيط بهم ناراً يوم القيامة كما قال تعالى:{ لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} (الأعراف 41) ففراشهم نار ولحافهم نار وقد أحيطوا بالنيران من كل مكان وكبلوا بالسلاسل والأغلال وسقوا ماء فقطع أمعاءهم فاللهم رحمتك نرجو وبك نستعيذ من هذا الخزي وهذا النكال أخي الكريم: واعلم أن الله جل وعلا لا يظلم مثقال ذرة, لذلك فالمعذبون يختلفون يوم القيامة في العذاب كل بحسب ذنبه وزلته. قال صلى الله عليه وسلم :" إن منهم من تأخذه النار إلى كعبيه, ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه, ومنهم من تأخذه إلى حجزته, ومنهم من تأخذه إلى ترقوته" وفي رواية إلى "عنقه" [مسلم]. وقد تقدم أن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة رجل على أخمص قدميه جمرتان يغلي منها دماغه" [مسلم] أخي: لا تحقر ذنباً مهما صغر فلربما كان مصرعك في احتقاره ولازم وقار الله فإنه التقى:
خل الذنوب
صغيــــــرها *** وكبيـرها فهو التـــــقى
واصنع كمـــــــاش فوق أر *** ض الشــــوك يحذر ما يرى لا تحــــقرن صغيـــــرة *** إن الجبـــال من الحــصى
ومن عذاب جهنم صب الحميم فوق رؤوس أهلها قال تعالى:{ هَذَانِ خَصْمَانِ
اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ
نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ*يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي
بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} وحينما يصب فوقهم ذلك الحميم الشديد الحرارة, تنقطع
جلودهم وتذوب, وتتمزق أحشاء بطونهم وتصهر, فلا صبر ولا هروب, ولا مخرج ولا نجاة,
ولا موت ولا هلاك, و‘نما يحيون بعد ذوبانهم فيعادون للعذاب الشديد, قال صلى الله
عليه وسلم :" إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما
جوفه, حتى يمرق من قديمه, وهو الصهر, ثم يعود كما كان" ومن أهل النار من
تأكله النار إلى فؤاده. قال تعالى:{ كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ
*وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ *نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي
تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ }(الهمزة 4-7) كان ثابت البناني يقول:"
تحرقهم النار إلى الأفئدة وهم أحياء, لقد بلغ منهم العذاب, ثم يبكي" ومنهم
من تندلق أمعاءه فيطحن فيها, وذلك الذي يعظ بما لا يتعظ وينصح الناس وينسى نفسه.
فقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" يجاء بالرجل
يوم القيامة, فيلقى في النار, فتندلق أقتابه في النار, فيطحن فيها كما يطحن
الحمار برحاه, فيجتمع أهل النار عليه, فيقولون: أي فلان, ما شأنك, أليس كنت
تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه, وأنهاكم
عن المنكر وآتيه" [البخاري ومسلم] ومن أهل النار من تلفح النار وجهه, فيلقى
فيها كما تلقى السمكة في الزيت الحار, قال تعالى:{ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ
وَهُمْ فِيهَا كَالِحُون }(المؤمنون 104) وقال سبحانه:{ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ
قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ }(إبراهيم 50) ولك أن تتصور أخي
الكريم: حال وجوههم ولقد ذهب لحمها وبقي عظمها, فيالها من بشاعة, ويا له من ألم
ومهانة, تتقلب وجوههم في النار وهم ينادون فلا يسمعون ويصرخون ولا يرحمون,
ويطلبون الموت فلا يجابون, وحينما تذوب جلودهم بالنار, يبدلهم الله جلوداً
غيرها. لأنها مركز إحساسهم بالألم, وهذا فيه آية وإعجاز لمن كان له قلب أو ألقى
السمع وهو شهيد, فقد ثبت في الطب الحديث أن الجلد مركز الإحساس بالألم وغيره,
وقد ذكر الله جل وعلا أن أهل الجحيم حينما تذوب جلودهم وتحترق يخلق لهم جلودا,ً
أخرى ليحسوا بالعذاب من جديد, قال تعالى]إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ
جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ
اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيم} (النساء 56)
وتصور أخي الحبيب: أن الكافر يوم القيامة يقسم بالله أن لم ير خيراً قط, بمجرد ما تلفحه النار لفحة واحدة, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة, ثم يقال: يا ابن آدم, هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول لا والله يا رب" [مسلم] فاستعن بالله يا عبد الله, فإنما الدنيا إلى زوال, وإن نعيمها كالخيال وإنما هي دار ابتلاء وامتحان, واحذر مداخل الشيطان والزم التقى واحذر النفس والهوى فإن هذه الأربعة أسباب التعاسة في الدنيا, والعذاب في الآخرة. قال تعالى:{ فَأَمَّا مَنْ طَغَى*وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَ* فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى* وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}
إني بليت
بأربع يرميــــــــنني *** بالنبل قد نصبوا علي شـراكا
إبليس والدنيا والنفـــــس والهوى *** من أين أرجو بينهن فكاكا يا رب ساعدني بعـــــــفو إنني *** أصبحت لا أرجو لهن سواكا
أما بُعدْ قعرها ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: كنا مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم , إذ سمع وجبة (أي سقطة) فقال النبي صلى الله عليه وسلم
:" تدرون ما هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا حجر رمي به في النار
منذ سبعين خريفاً, فهو يهوى في النار إلى الآن" [مسلم] أما طعامها وشرابها طعام أهل النار وشرابهم:
طعامهم:أهل النار يصيبهم الجوع والعطش, فيطعمهم الله طعاماً يزيدهم عذاباً على عذاب, مما يجدونه من الألم والحر في بطونهم بعد أكله فلا هم يذهبون حرارة الجوع بذلك الطعام, ولا هم يهنؤون, قال تعالى:{ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ*لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} (الغاشية 6-7) والضريع نوع من الشوك المر النتن, لا ينفع آكله ولا يشبعه ويعرف عند الحجازيين بالشربق. قال قتادة: "من أضرع الطعام وأشبعه" [التخويف من النار] وكل طعام يأكله أهل النار يجمع عليهم مرارة الطعام وغصته كما قال تعالى:{ إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالاً وَجَحِيم*)وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيما والغصة هي التي يعلق بها الطعام في الحلق فلا يسهل عليه دخوله إلى الجوف ولا يسهل خروجه عنه للتخلص منه. ومن طعام أهل النار صديد الأبدان والقيح, فمن شدة جوعهم وفقدهم للطعام يلتفتون إلى صديدهم فيطعمون منه ولا يستسيغونه. قال تعالى:{ وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ}(الحاقة 36) والغسلين و الصديد. وهو أنواع وألوان قال تعالى:{ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ*وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ}(ص 57-58) فتأمل أخي –حفظك الله- في هذا المشهد المشين, الذي تتقزز النفس من سماعه, فضلاً عن رؤيته وانظر إلى هؤلاء البؤساء في مشهدهم هذا وهم يلعقون الضريع والقيح والغسلين, وألوان العذاب فوق رؤوسهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم.. إنها الخزي والندامة والحسرة والخسارة.
ويا قبح
طعم ما يأكلون, لا تستسيغه أذواقهم, ولا تقبله ألسنتهم, ومن شدة ما هم فيه من
آلم الجوع ومرارة الطعم, يتمنون الموت فلا يموتون، بل يزدادون عذاباً فوق عذاب
قال تعالى:{ مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ
صَدِيدٍ*يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ
مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} (إبراهيم
16-17) أما فاكهتهم فإنها من شجرة الزقوم. وإنها لشجرة شنيعة المنظر فظيعة
المظهر مرة المذاق, قال تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ
*فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ *ثُمَّ إِنَّ
لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ*ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى
الْجَحِيمِ }(الصافات 65-68) فأي نكال بعد هذا النكال, واسمع إلى قول رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهو يصف تلك الشجرة:"لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار
الدنيا, لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم, فكيف بمن تكون طعامه" [صحيح الجامع
الصغير]
شرابهم: أما شراب أهل النار فإنه الحميم الشديد الحرارة, يشربونه من شدة العطش وهم يعملون حرارته وحميمه فيقطع أمعاءهم وأحشاءهم. قال تعالى: { وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَق} (الكهف 28-29) وقال تعالى:{ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} (محمد 15) وقال تعالى:{أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون} (الأنعام 70) فاللهم عفوك ورحمتك, فما أشقى هذه الحياة, وما أتعس أهلها. فراشهم من نار ولحافهم من نار وفاكهتهم من نار وطعمهم من نار, وشرابهم الحميم وظلهم اليحموم.. ولا غياث ولا كريم كلما استغاثوا لأجيبوا: {قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ } فيا من تعصى الله تصور نفسك وأنت في هذه الحال, وقد رميت لهذا المآل وقذف بك في جهنم, أتراك تفديك أموالك, أم تراك ينجيك جاهك وأولادك, فتب إلى الله, فقد قرب الحساب.
وأما لباسها : لباس أهل النار: وكما في النار طعام وشراب
وفراش ففيها أيضاً اللباس, وليس اللباس لوقايتهم من الحر وإنما هو زيادة في
العذاب وتنوع في النكال. قال تعالى: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ
ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ } فهي ثياب من
نار. كان إبراهيم التيمي إذا تلا هذه الآية يقول:*سبحان من خلق من النار ثياباً*
[التخويف من النار] فهي لباس مقطعة تزيد لابسها عذاباً ونكالاً وألماً. قال تعالى:{وَتَرَى
الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ* سَرَابِيلُهُمْ مِنْ
قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} (إبراهيم: 49,50) والقطران هو النحاس
المذاب. فالبس أخي لباس التقوى يقيك من حر يوم القيامة وينافح عنك وينافح عنك
لهيب جهنم, فإنه أسلم لك وأجدى وأنفع من لباس الإجرام والفسوق والمعاصي إذ هو
مذلة الدنيا, حسرة يوم القيامة, فانظر كيف ألبسهم الله يوم القيامة ثياباً مقطعة
حامية, لما لبسوا في الدنيا لباس الكبائر والفواحش والفجور, قال تعالى:{
لِبَاساً يُوَارِي سَوءاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى} (لأعراف:26) وممن
يلبسون تلك الثياب النائحات. قال صلى الله عليه وسلم :" النائحة إذا لم تتب
قبل موتها, تقام يوم القيامة, وعليها سربال من قطران ودرع من جرب " [مسلم]
.
وأهل النار يعذبون ظاهراً وباطناً فهم مع عذابهم الجسدي, يتعذبون بالحسرة والندامة على كفرهم وأعمالهم. قال تعالى:{ وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (يونس:54) وتزداد ندامتهم إذ يتبرأ منهم الشيطان الذي أغواهم. قال تعالى:{ فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (إبراهيم:22) . بل يصرخون بندامتهم واعترافهم بذنبهم وقلة عقلهم, قال تعالى:{ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} (الملك:11) ويتمنون لو أن كانوا تراباً من شدة ندمهم. قال تعالى:{ يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاب} (النبأ:40) وتارة يلوم بعضهم بعضاً. قال تعالى:{ هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّار* قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ*قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ} (صّ:59-61) ويزدادون حسرة إذ يلومهم المؤمنون ويوبخونهم:{ وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ*الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ} (لأعراف:50-51) وتكتمل حسرتهم إذ يوبخهم الملائكة. قال تعالى:{ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ *لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} (الزخرف:77-78) . فتذكر أخي الكريم هذه المشاهد المرعبة.... واعمل لنفسك أن تنجو من عذاب الله فإن عذاب الله شديد, وإن انتقامه عزيز.
واعلم أن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ويفرح بتوبة عبده ويفرحه بها,
ويجزيه عليها خير الجزاء وقل يا رب:
قال
تعالى:{ ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ
يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً } (الطلاق 5) فيا عبد الله استعن بالله ولا تعجز, وسر على درب
قافلة النجاة, استمسك بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم , والصحابة
من بعده ولازم التوبة والاستغفار فإنها حلية الصالحين ومنار الأنبياء والمرسلين
قال تعالى مخاطباً عباده المؤمنين:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا
الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور 31) وتأمل كيف علق فلاحهم –وهم
المؤمنون- على التوبة ليعلم كل مؤمن أن الخير في ملازمته لهذه العبادة الجليلة:
ولا حول ولا قوة إلا الله.
اللهمّ أجرنا من النّار3 يا عزيز يا غفّار،
والحمد
لله ربّ العالمين
الخطبة الثّانية
بسم الله والحمد لله والصّلاة والسّلام على رسول
الله.
أيّها الإخوة الكرام، أجارني الله وإيّاكم من النّار
ولهيبها، أتدرون ما هي أمنية أهل النّار؟ أمانيهم فيها الهلاك ،أي الموت، فما
حال دار أماني أهلها الموت؟!
صياحهم وطلبهم النجدة
كيف بك لو
رأيتهم وقد اسودت وجوههم؟! فهي أشد سوادا من الحميم، وعميت أبصارهم وأبكمت
ألسنتهم وقصمت ظهورهم ومزقت جلودهم وغلّت أيديهم إلى أعناقهم وجمع بين نواصيهم
وأقدامهم، يمشون على النار بوجوههم، ويطؤون حسك الحديد بأحداقهم، ينادون من
أكنافها ويصيحون من أقطارها: يا مالك قد أثقلنا الحديد، يا مالك قد حق علينا
الوعيد، يا مالك قد نضجت منا الجلود، يا مالك قد تفتتت منا الكبود، يا مالك
العدمُ خير من هذا الوجود، فيجيبهم بعد ألف عام بأشد وأقوى خطاب وأغلظ جواب: إِنَّكُمْ
مَاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ
لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف: 77، 78]، فينادون ربهم وقد اشتدّ بكاؤهم
وعلا صياحهم وارتفع صراخهم: رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا
وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا
فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون: 106، 107]، فلا يجيبهم الجبّار جل جلاله إلا
بعد سنين، فيجيبهم بتوبيخ أشد من العذاب: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا
تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: 108]، فعند ذلك أطبقت عليهم وغلّقت، فيئس القوم
بعد تلك الكلمة أيّما إياس، فتزداد حسراتهم وتنقطع أصواتهم، فلا يسمع لهم إلا
الأنين والزفير والشهيق والبكاء، يبكون على تضييع أوقات العمر في اللّهو
واللّعب، وفي الغيبة والنّميمة، وفي السّخرية بالخلق،
لقد باعوا
جنّة عرضها السماوات والأرض بأبخس الأثمان؛ بشهوات تمتّعوا بها في الدنيا
الفانية فزالت وزالوا، كأنّهم لم يلبثوا فيها إلاّ عشيّة أو ضحاها، ثم لقوا
عذابا طويلا وهوانا مقيما، فعياذا بالله من نار هذه حالها، وعياذا بالله من عمل
هذه عاقبته، وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي
الأَصْفَادِ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ لِيَجْزِيَ
اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ هَذَا
بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ
وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [إبراهيم: 49-52].
اللهم إنه لا طاقة لنا بعقابك، ولا صبر لنا على عذابك،
اللهم فأجرنا وأعتقنا من نارك، رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ
إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان:
65/ 66].
بارك الله
لي ولكم في القرآن العظيم...
|
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire