jeudi 13 décembre 2012

مكانة العمل في الاسلام لشروق محمد هداية


مكانة العمل في الاسلام
يوضح القرآن الكريم أن "العمل" يظفر بمكانة رفيعة وأهمية بارزة بين أسس وقيم ومبادئ الإسلام ومن دلائل الاهتمام بأمر أن يتكرر ذكره، وأن تتعدد اشتقاقاته، وإذا رجعنا إلى القرآن فإننا نجد أن كلمة "العمل" تعد من أكثر الكلمات ورودا، وأن القرآن قد ذكرها مرارا وتكرارا، واستخدم مشتقاتها العديدة فيما وضعت له فأشار إلى عمل (19 مرة) وعملوا (73 مرة) وتعملون (83 مرة) ويعملون (56 مرة) وأعمالهم (27 مرة) ويعمل (14 مرة) فضلا عن بقية المشتقات التي ذكرت مرات أقل مثل عملت – أعمل – يعمل – عملا – عملكم – أعمالكم – أعمالنا – عامل – عاملون – عاملين.. ويصل مجموع هذه الإشارات إلى ما يقارب 330 مرة.

وبالإضافة إلى هذه الإشارات إلى كلمة "العمل" ومشتقاتها على وجه التعيين فهناك إشارات أخرى عديدة إلى "مضمون" العمل مما يدخل في مترادفات كلمة العمل مثل "فعل" ويفعلون و"صنع" و"يصنعون" ومثل الأمر بالسير وأكل الطيبات واستباق الخيرات ألخ.. مما يكاد يضاعف الرقم السابق.

ولإيضاح دلالة هذا الرقم نقول أن الإشارات إلى الصلاة ومشتقاتها في القرآن الكريم تقارب المائة وفي أغلبية الإشارات ذكرت الصلاة مقرونة بالزكاة ومعنى هذا أن إشارات القرآن الكريم إلى العمل هي أضعاف إشاراته إلى الصلاة.

قد يقال أن العنصر الهام ليس هو مجرد الذكر وعدد مرات الإشارة ولكن المضمون والمكانة وفحوى هذا الذكر، وهنا أيضا لا يخذلنا القرآن..

ذلك أن القرآن الكريم يذكر العمل باعتباره مصداق الإيمان آونة، ومعيار الثواب والعقاب آونة أخرى، وقد يقدمه عن الذكر على التوحيد ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ وقد يكتفي بالإشارة إليه ﴿وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ وأوصى الرسل ﴿يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾. وليس بعد هذا كله غاية في عالم العقائد..

وفي القرآن الكريم ثنائيات تنم عن طبيعته الشاملة والتكاملية ولا يمكن أن يخطئها كل من ألف قراءته فالليل يذكر مع النهار.. والشمس مع القمر، والسموات مع الأرض، والذين يقيمون الصلاة مع الذين يؤتون الزكاة... ومن أبرز هذه الثنائيات في الدلالة فيما نحن بصدده أن القرآن عندما يتحدث عن ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فإنه يضيف إليهم دائما ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ وقد تكرر هذا في القرآن مرات تجاوز المائة عدا..

وهذا الربط المتواتر ما بين ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ و﴿عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ يوضح لنا أن الإيمان إنما يكتمل بالعمل الصالح. وإلا فلم يكن هناك مبرر لدوام الربط، ودلالة هذا الربط ومعناه هي ما ذكرناه من أن الإيمان يكتمل بالعمل، ولو أنعم المسلمون النظر في هذه النقطة وتوصلوا إلى دلالتها لما كان هناك داع لكثير من القضايا الجدلية التي كانت مثار المنازعات حادة عن الإيمان، وهل يقتصر على التصديق أو لابد له من عمل. وهل يزيد أو ينقص إلى آخر ما يرد في كتب العقائد وعلم الكلام. فالإيمان دون عمل يخالف دون ريب توجيهات القرآن التي تقرن دائما وأبدا الإيمان بالعمل.

ويغلب أن تأخذ إشارات القرآن إلى المؤمنين صورة من ثلاث صور، فعندما يذكر ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فإنه كما قلنا يقرن ذلك بتعبير ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ والآيات التي جاء فيها هذا القرن أكثر من أن تحصى في هذا الموجز، وعندما يتحدث إلى المؤمنين بصيغة الخطاب ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فإنه يقرن ذلك بأحد التوجيهات العملية ﴿كُلُوا﴾، ﴿لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ﴾ ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، ﴿اتَّقُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ﴾، ﴿أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ﴾، ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا﴾، ﴿لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾، إلى آخر هذه التوجيهات التي تتعلق بالسلوك أو المواقف التي يجب على المؤمنين وقوفها والالتزام بها. وأخيرا فإن القرآن عندما يشير إلى ﴿مَنْ آمَنَ﴾ فإنه يضيف إلى ذلك ﴿وَعَمِلَ صَالِحًا﴾، ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾، ﴿مَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ﴾، وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾، ﴿ِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾.. الخ.

وفي بعض الحالات لا يذكر القرآن العمل صراحة ولكنه يعطي مضمونه جنبا إلى جنب مختلف العبادات.. ففي سورة الجمعة ﴿فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ"﴾، وفي سورة الحج ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾، ولم يأنف من أن يرمز إلى الإيمان بكلمة تجارة ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ﴾. وذكر جنبا إلى جنب الذين ﴿يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ الذين ﴿يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾، ﴿عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾.

فهذه الإشارات كلها للجمع ما بين الصلاة والحج والمنافع وابتغاء فضل الله والرمز للإيمان ومختلف قرباته بالتجارة كلها توضح أن العمل بالمعنى الاقتصادي أي العمل المنتج اعتبر قرينا للإيمان ومصداقا له.

وهذا الجمع المتكرر والمتواتر بين الإيمان والعمل الصالح يوحي أن الإيمان في القرآن يعد المدخل إلى عالم العقيدة، و"الهوية" للمؤمنين. ولكن هذا المدخل والهوية لا يكفيان وحدهما بل لابد من العمل الصالح الذي يؤكدهما ويصدقهما فليس الإيمان بالتمني ولكن بما يصدقه العمل.

وهناك إشارات أخرى في القرآن الكريم عن العمل تؤكد هذه الحقيقة لأنها لا تكتفي بجعل العمل مصداق الإيمان ولكنها تجعله المعيار في الثواب والعقاب فالمؤمنون لا يعفون بحكم إيمانهم من الحساب، إن العمل هو الذي سيقرر ما إذا كان هؤلاء المؤمنون يثابون أو يعاقبون.

والآيات عن ذلك عديدة..

﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾ (30 آل عمران)

﴿وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ (129 الأعراف)

﴿لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (121 التوبة)

﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ (7 هود)

﴿وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ (111 النحل)

﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَعَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (92-93 الحجر)

﴿مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (40 غافر)

﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ (46 فصلت)

﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ (15 الجاثية)

﴿أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (14 الأحقاف)

﴿مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ﴾ (44 الروم)

وفي القرآن الكريم جزء من آية، ثلاث كلمات بعيدة الدلالة والمغزى تلك هي ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ﴾ (80 الأنبياء) من هذه الكلمات الثلاث نعلم أن الحديث صادر من الله تعالى.. فالله تعالى هو الذي "عَلَّمَ" وأن الحديث موجه إلى داود، رأس بني إسرائيل وفخرها وأن ما علّمه الله لداود هو صنعة الدروع. فأي تكريم للصنعة كما جاءت اللفظة القرآنية وهي نفسها اللفظة السارية بين العمال اليدويين.. أن يعلّمها الله نفسه لداود نفسه.. كما تضمن الآية أيضا أن العلم هو وسيلة الصنعة وليس شيئا آخر.

وأبرز من هذا كله في الدلالة الآية ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾. فلا شيء أصرح من هذا في أن الله تعالى جعل هذه الحياة الدنيا امتحانا يدور حول العمل
ويتفق الحديث النبوي مع القرآن الكريم في الجمع ما بين الإيمان والعمل واعتبار العمل مبرر الثواب والعقاب. فالحديث النبوي عن أن الإيمان بضع وسبعون (وفي رواية وستون) شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، يوضح لنا مدى شمول الإيمان بدءا من ذروة العقيدة حتى أدنى عمل من الأعمال اليدوية.. وهناك الحديث المشهور عن الشاب الجلد الذي تمنى الصحابة لو كان جلده في سبيل الله فصحح النبي r لهم هذا المفهوم "لو كان يسعى على أبوين شيخين فانه في سبيل الله أو يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله"، فسبيل الله ليس مقصورا على الصلاة والصيام.

واعتبر النبي r أن "أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صلاة وحملك عن الضعيف صلاة وإنحاؤك الأذى عن الطريق صلاة"، رواه ابن خزيمة في صحيحه وتحدث عن رجل "يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين.." ويقابل هذا امرأة "دخلت النار في هرة حبستها فلا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض". وجاء في كتاب "أدب الدنيا والدين" للماوردي:
وقد قال الله تعالى لنبيه r ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾ قال أهل التأويل فإذا فرغت من أمور الدنيا فانصب في عبادة ربك وليس هذا القول منه ترغيبا لنبيه r فيها ولكن ندبه إلى أخذ البلغة منها. وعلى هذا المعنى قال r ليس خيركم من ترك الدنيا للآخرة.. ولا الآخرة للدنيا ولكن خيركم من أخذ من هذه وهذه وروى عن النبي r أنه قال "نعم المطية لدنيا فارتحلوها تبلغكم الآخرة" وذم رجل الدنيا عند علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه فقال رضي الله عنه الدنيا دار صدق لمن صدقها ودار نجاة لمن فهم عنها ودار غنى لمن تزود منها." [2]
وعن أنس قال كنا مع النبي r في السفر فمنا الصائم ومنا المفطر فنلنا منزلا في يوم حار فسقط الصوامون وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسقوا الركاب فقال النبي r ذهب المفطرون اليوم بالأجر كله.

وكما فضل النبي r هؤلاء المفطرين في السفر على الصائمين ورأى أنهم "ذهبوا بالأجر" فقد فضل في حديث تعددت رواياته امرأة لا تؤدي إلا الفرائض ولكنها تتصدق ولا تؤذي جيرانها على امرأة أخرى كثيرة الصلاة والصيام ولكنها تؤذي جيرانها.

وعن أبي قلابة أن ناسا من أصحاب النبي r قدموا يثنون على صاحب لهم خيرا قالوا ما رأينا مثل فلان قط ما كان يسير إلا كان في قراءة ولا نزلنا منزلا إلا كان في صلاة قال فمن يكفيه ضيعته ومن كان يعلف جمله أو دابته قالوا نحن قال فكلكم خير منه. وعن النبي r أنه قال ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه الطير أو الإنسان إلا كان له به صدقة. وقال "لو قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليزرعها".

وعن عبد الله بن مسعود قال رسول الله "طلب كسب الحلال فريضة بعد الفريضة".

وعن أبي هريرة أن النبي r قال "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من آمنه الناس على دمائهم وأمولهم وزاد البيهقي في شعب الإيمان برواية فضاله "والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب".

وعنه أنه قال "لا إيمان لمن لا أمانة له". وقال "آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد خلف وإذا ائتمن خان وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم".

وعن أنس قال رسول الله r "يتبع الميت ثلاثة فيرجع اثنان ويبقى واحد يتبعه أهله وماله وعمله فيرجع أهله وماله ويبقى عمله".

وكان النبي r يستعيذ من "علم لا ينفع" كما يستعيذ من "قلب لا يخشع" ويقول إذا أراد الله يقوم سوءا أوتوا الجدل ومنعوا العمل.. وكان الدعاء المأثور "اللهم علّمني ما ينفعني وانفعني بما علّمتني".

وحديث المفلس يوضح لنا أهمية العمل في مقابل العبادة وكيف أن العبادة لا تغني عنه، ونصه "أتدرون من المفلس قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع قال المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصوم وزكاة، وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار".

فهذه الأحاديث كلها هي كالآيات التي استشهدنا بها من قبل تجمع ما بين الإيمان والعمل ووضح أنه حتى تعبيرات الصدقة والصلاة والإيمان والجهاد والمسلم والمؤمن تتسع لصنوف من الأعمال مستقلة عن العبادات قدر ما هي متصلة بممارسات من صميم الحياة العملية واليومية للناس بل أن العبادات نفسها تحكم بهذه الممارسات والأعمال وتقاس بها حتى وإن شملت أدنى الأعمال وامتدت إلى الحيوان والجماد.

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه "لأن أموت بين شعبتى رحلى أضرب في الأرض ابتغي من فضل الله أحب إلى من أن أقتل مجاهدا في سبيل الله" وقد ذكر هذه الرواية أحد الفقهاء والأساتذة في السعودية على أساس أنها تقديم من عمر بن الخطاب للكسب على الجهاد استنادا على تقديم القرآن الذين يضربون في الأرض لكسب الرزق على المجاهدين في سبيل الله ﴿وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ (المزمل 2). ونقل ما رآه بعض الفقهاء من أن الجهاد فرض "وقد اقترن بالضرب في الأرض للاكتساب فيكون الاكتساب فرضا بدلالة الاقتران وتقديمه على القتال يدل على أولويته" [3]، ورأى الكاتب أن هذا لا يخرج عما أراده عمر من قوله واستطرد "والحقيقة أنه لولا الكسب لما قام الجهاد في سبيل الله، لأن المال عصب القتال، ومن هنا جاءت أهمية الإعداد الاقتصادي والاقتصاد الحربي لتمويل الحروب، خاصة في العصر الحاضر، إذ المال هو الوقود الحقيقي للحروب حيث تصمد الدولة في القتال ما قويت على تمويل حربها." [4]

وقد يذكر في هذا الصدد أن القرآن الكريم عندما يذكر الذين ﴿يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فإنه دائما يذكر الذين يجاهدون ﴿بِأَمْوَالِهِمْ﴾ أولا ثم بـ﴿أَنفُسِهِمْ﴾ ثانيا.

كما قد يذكر أن حرص عمر بن الخطاب رضي الله على صحبة الرسول وتقديره لأهمية ذلك، لم يمنعه من "الصفق في الأسواق" وعندما أعلم بحديث لم يسمعه قال "ألهاني عنه الصفق في الأسواق". ولعمر رضي الله عنه أقوال أخرى معروفة في الحث على العمل فهو الذي قال لأناس وجدهم في المسجد تاركين العمل "لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول "اللهم ارزقني" فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة" وقال "اني لأرى الرجل فيعجبني فأقول أله حرفة فإن قالوا لا سقط من عيني". وقد كان هو الذي عندما مر بقوم من القراء فرآهم جلوسا في المسجد قد نكسوا رؤوسهم فقال من هؤلاء فقيل المتوكلون فقال كلا ولكنهم المتأكلون، يأكلون أموال الناس ألا أنبئكم من المتوكلون قيل نعم قال هو الذي يلقي الحب في الأرض ثم يتوكل على ربه". كذلك فإنه عندما دخل السوق في خلافته فرأى غالبية من فيه من النبط اغتم لذلك. ولما اجتمع الناس أخبرهم بذلك وعزلهم في ترك السوق فقالوا إن الله أغنانا عن السوق بما فتح به علينا فقال والله لئن فعلتم ليحتاج رجالكم إلى رجالهم ونساؤكم إلى نسائهم.

وقال أبو قلابة لرجل لأن آراك تطلب معاشك أحب إلى من أن أراك في زاوية المسجد. وسئل النخعي التاجر الصدوق أحب إليك أم المتفرغ للعيادة فقال التاجر الصدوق أحب إلى لأنه في جهاد يآتيه الشيطان من طريق المكيال والميزان ومن قبل الأخذ والعطاء.

وكان دأب السلف التثبت من الجمع بين العلم والعمل فحكى الأمام الشافعي في "الرسالة" والغزالي في "الإحياء" أن المكلف لا يجوز أن يقدم على أمر حتى يعلم الله فيه وقال القرافي في "الفروق" فمن باع وجب عليه أن يتعلم ما عينه الله وشرعه في البيع، ومن آجر وجب عليه أن يتعلم ما شرعه الله في الاجارة ومن قارض وجب عليه أن يتعلم حكم الله في القراض.

وقال العلماء لا يجوز أن يتولى البيع والشراء ويجلس في السوق لذلك إلا من هو عالم بأحكام البيع والشراء وأن تعلم ذلك لمن أراده فرض واجب متعين عليه.

وبعث عمر من يقيم من الأسواق من ليس بفقيه.

وكان مالك يأمر الأمراء فيجمعون التجار والسوقة ويعرضونهم عليه، فإذا وجد أحدا منهم لا يفقه أحكام المعاملات، ولا يعرف الحلال من الحرام أقامه من السوق وقال له تعلم أحكام البيع ثم اجلس في السوق، فإن من لم يكن فقيها أكل الربا. وكان التجار في القديم إذا سافروا استصحبوا معهم فقيها يرجعون إليه في أمرهم.

وفي المعاصرين ذهب الشيخ محمود شلتوت رحمه الله إلى أن القرآن يعبر عن العقيدة بالإيمان.. وعن الشريعة "بالعمل الصالح" وأن الإسلام يحتم "تعانق الشريعة والعقيدة بحيث لا تنفرد إحداهما عن الأخرى على أن تكون العقيدة أصلا يدفع إلى الشريعة والشريعة تلبية لانفعال القلب بالعقيدة. وقد كان هذا التعانق طريق النجاة والفوز بما أعده الله لعباده المؤمنين." [5] وهو لا يخرج عما ذهبنا إليه من أن العمل هو مصداق الإيمان.

ومقارنة جانبي العمل – أي العمل كمصداق للإيمان.. والعمل كمعيار للثواب والعقاب توضح لنا أن العمل الإسلامي وإن كان محكوما بالإيمان ويفترض أن يأتي تصديقا له.. إلا أنه من ناحية أخرى له وجوده الموضوعي وكيانه الخاص. فالعمل الحسن أو بالتعبير القرآني (الصالح) من كرم أو شجاعة أو عدل أو إنفاق أو وفاء بالعهد والوعد... الخ، له كيانه الخاص ووجوده قبل الإسلام وبعد الإسلام وسواء وقع في دار إسلام أو في دار كفر... من مسلم أو غير مسلم.

وحتى في الجانب الذي يكون العمل فيه محكوما بالإيمان فليس هناك صعوبة في تبين أن دعوى الإيمان مفتوحة ولا يمكن جحدها لكل من يدعيها أو يقول "لا إله إلا الله محمد رسول الله" وأننا لا نستطيع أن نفترض في كل واحد فناء الحلاج أو هيام رابعة العدوية مما لا يمكن ضبطه أو تقديره، وما يمكن أن يجنح بصاحبه إلى بحار الأهواء المتلاطمة. وبالتالي فإن الدليل الوحيد لابد وأن يكون العمل، لأن النية والقلب محجوبان عن هذا المجتمع لا يعلمهما إلا الله، ولهذا المعنى جاز للعمل - وهو المحكوم بالإيمان – أن يكون هو نفسه دليلا على الإيمان، ومعيارا للثواب والعقاب، ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه﴾.

وهناك حكمة دقيقة وهامة في هذا القرن ما بين الإيمان والعمل، وجعل العمل مصداقا للإيمان، ذلك أن العبادات التي تصطحب تقليديا في الأذهان بالإيمان من صلاة أو صيام أو حج... الخ، يمكن أن تصبح طقوسا شكلية، ويمكن ان تصبح أداة لتعميق الإحساس بالذات بصرف النظر عن المجتمع. فالمصلي لا يعنيه ما تدور عليه حياة الناس حوله وما يملأ دنياهم من هموم ومشاكل ما دام هو عاكف على صلاته وصيامه، مؤمن أنه أدى واجبه وأنقذ نفسه وأرضى ربه، بل قد يتطور الأمر فتعطي هذه الصلاة والصيام منعزلة عن العمل إشباعا كاذبا يرضي الضمير، وأن هذا هو المطلوب منه، وقد أداه فلا عليه إذا انصرف إلى غير ذلك مما يراه خارج إطار العبادة وطبقا لمصلحته وهواه دون أي اعتبار آخر، وأخيرا فقد تحيف العبادة على العمل، كما يحدث عندما يترك موظف عمومي عمله ليصلي الظهر بمجرد سماعه الأذان ويدع الناس واقفين أو متعطلين في انتظاره وقد يطيل ويلي النوافل أيضا، وكأنه يتلذذ بتعذيب الناس أو يتقرب إلى الله بتعطيل أعمالهم!! في حين أن في الوقت المباح متسع، وأن تفريج كربات الناس أفضل من أي قربى أخرى، وقد تحرص إحدى الموظفات على أن تغطي رأسها بطرحة كثيفة، ولكنها لا تحرص على خدمة المواطنين، وقد تكون قد لفت رأسها تخلصا من تصفيف شعرها أو سترا لبعض عيوبه، أي لغرض مادي وذاتي، أكثر مما هو استجابة لما تظن أنه توجيه من الشريعة.

وعلى مستوى المجتمع فإن تقوقع الوعي الإسلامي في إطار العبادة وتخليه عن مجال العمل والحياة أدى إلى صور من المفارقات تثير الدهشة والأسى. فكيف وسع علماء الأزهر الأجلاء السكوت على ظاهرة البغاء. أو بالتعبير القرآني (الزنا) المصرح به من الدولة والذي كان يمارس تحت حمايتها ورعايتها لأكثر من خمسين عاما.. وعندما قضي عليه، فلم يحدث ذلك تلبية لضغط من علماء الأزهر، ولكن كمناورة سياسية. وكيف يجوز حتى الآن أن تستمر المحال العامة الكبرى ومعظمها قطاع عام في جعل أجازتها الأسبوعية الأحد، بحيث يكون البيع والشراء على أشده يوم الجمعة.. والأذان يتعالى ونص القرآن صريح وصادع ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، ولا يرتفع صوت من عالم أو من نقابة عمال التجارة يقول "على الأقل اغلقوا هذه المحال وقت الصلاة وأوقفوا هذا التحدي والوقاحة لنص القرآن وتوجيهه". بل أن المساجد نفسها ظلت حتى فترة قريبة جدا مسرحا للكاسيات العاريات من السائحات دون أن يخطر في ذهن أحد من الشيخ أن يلزمهن أدب الإسلام ما دمن يدخلن مساجد الإسلام.. وتجاهل المشرفون على جامعة الأزهر صورا عديدة من تبرج الطالبات بعد أن وقف الشيخ النجار لهذه الظاهرة بالمرصاد وكاد يقضي عليها عندما كان مديرا للأزهر..

باختصار فإن الفصل ما بين "الإيمان" و"العمل" عزل الإسلام عن مجال الحياة تماما وأدى إلى إعمال المبدأ المسيحي "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله" في المجتمع الإسلامي أكثر مما هو مطبق في المجتمع المسيحي حيث يكون للمسيحية صوت في المجتمع، وإن تخلت عن السياسة.

وحقيقة أن العمل، كما توضح الآيات التي استشهدنا بها من قبيل المثال لا الحصر – هو مصداق الإيمان ومعيار الثواب والعقاب يجب أن لا تثير دهشتنا لأن الإسلام دين حياة ومجتمع وهو يرسي أسسا محددة في الاقتصاد والسياسة، ويتطلب مستويات معينة في التصرفات والمعاملات، فلابد أن يكون العمل هو المحور والمعيار داخل الإطار الواسع للإيمان.. وبدون ذلك لا يمكن للمجتمع أن يكون قويا متماسكا سليما ولا يمكن أن تتوفر له القوة والمنعة والعزة والحماية من افتيات الدول الأخرى. بل ولا يتوفر له العلم الذي هو في أساس الإيمان ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾. وعندما أهمل المجتمع الإسلامي "العمل" أو أساء فهمه فإن هذا المجتمع قد هوى بسرعة وتراجع أمام المجتمعات التي أخذت بأسباب العمل ولو أمعن المسلمون النظر في قرآنهم لفهموا العمل حق الفهم ولما كان لهم عذر في الخلط ما بين " العمل" والعبادة أو الظن أن العمل إنما يراد به الصلاة والصيام... الخ. فتفرقة القرآن واضحة فالعمل الصالح له محتواه ومضمونه الذي يتميز عن العابدات من صلاة وصيام والذي يذكره القرآن جنبا إلى جنب الصلاة والصيام مما يوضح أن له كيانه الخاص. وعندما أشار الله إلى وراثة الأرض فإنه لم يورثها للمسلمين أو المصلين أو المؤمنين ولكن للصالحين وسنرى في فصل تال ما هو المدلول الحقيقي لمعنى "الصلاح والصلاحية" التي أرادها القرآن.

وإنها لمأساة مفجعة أن أغفل المجتمع الإسلامي المعنى الكبير للعمل وعلاقته الوثيقة بالإيمان وأن تبنه إلى هذا المعنى شعوب بعيدة كل البعد عن الإسلام. فالذين زاروا "كوريا" و"اليابان" وتفقدوا مصانعها لمسوا أن العمال هناك يؤمنون أن العمل عبادة ويمارسونه بالتركيز واستحضار القلب الواجب للعبادة. فالمصنع مسجد له قداسة المسجد، والعمل عبادة له استغراق العبادة والعمال يتقربون إلى الله بالإنتاج لأن هذا الإنتاج يملأ البطون الجائعة، ويكسو الأجسام العارية ويشفي الأبدان المريضة و﴿يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ ويشيع بينهم الفنون والآداب ويرسم الابتسامات على الشفاه ويعيد الآمال إلى النفوس ويكفل للشعب كله العزة والكرامة والاستغناء عن التكفف أو الاستدانة من الآخرين.
منقول عن شروق محمد هداية

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire