jeudi 8 septembre 2016

الصّــــــــــدقة



الصّــــــــــدقة

الحمد لله البر الجواد الكريم، القابض الباسط الرحمن الرحيم، أحمده تعالى على فضله العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمرنا بصلة الأرحام، والصدقة على الفقراء والأيتام، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله اتّقوا حقّ التّقوى واعلموا أنّكم إليه تحشرون وعلى أعمالكم تحاسبون.
للم يبق من الأيام العشرة المباركة سوى يومين ويهلّ علينا العيد بأنواره ، وخيراته وبركاته، وليس لنا إلاّ أن نزيد من درجة الاستعداد، حتّى نقبل على العيد بحبّ وطواعيّة، نسأل الله أن يبلّغنا إيّاه، وأن يجعلنا فيه من المقبولين،فما هي أفضل الأعمال التي بها نزداد فيه قربا إلى الله تعالى؟ وكيف نؤهّل أنفسنا للعطاء من أجل الارتقاء بها أعلى درجات الاستعداد للإقبال على العيد؟
إنّها الصّدقة أيّها الأحبّة. فهي من أفضل أسباب الوقاية من النار ولو كانت باليسير، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ» متفق عليهوهي دليل على صدق إيمان العبد ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ"أي  برهان ودليل على إيمان العبد، لأن النفس مجبولة على حب المال، فإذا تغلب المسلم على نفسه، وأنفق في سبيل الله، كان ذلك برهان على أنه يقدم مرضاة الله وما يحبّه الله على ما تحبّه أنفسنا، وذلك دليل على الفوز والنّجاح لذلك يقول تعالى: " وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"التغابن/16
قال الحسن البصري رحمه الله: (إذا أردت أن تعلم من أين أصاب الرجل ماله فانظر فيما أنفقه، فإن الخبيث ينفق في السّرف)فهذا الكلام الدّقيق يدلّنا على دواعي الإنفاق في سبيل الله، وموانعه:فإذا كان المال مصدره حلال وكان من كدّ اليمين وعرق الجبين،سهل الإنفاق منه، وإذا كان مصدره حرام، امتنع صاحبه عن إنفاقه.وعلى المنفق أن يجتهد في وضع ماله في مكانه المناسب، حتّى يثمر بركة ونماء وأجرا لا يعلم مقداره إلاّ الله تعالى.كأن يمسح دموع مكروب، أو يدخل سرورا على فقير معدوم،أو يتيم فقد حنان والديه، أو غارم كبّلته الدّيون... لأنّه بذلك يرتقي إلى درجة الإحسان  ( وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)- [آل عمران/134]. 
عباد اللهإنّ من أهمّ مقاصد الصّدقة، تحقيق الوحدة بين المسلمين، من خلال ذلك التّواصل والتّعاون والتّآزر.يقول صلى الله عليه وسلم: «ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى"لذلك فالأولى أن يقوم المتصدّق بإعطاء صدقته بنفسه، حتّى يعاين حال الفقير،وظروف إقامته، ونمط عيشه، وما يأكل أفراد عائلته وما يلبسون، وكيف ينامون، فيرقّ قلبه، ويطمئنّ إلى موضع ماله،وتتصافح الأيادي المتباعدة،وتتقارب الأرواح المتنافرة،وتتقلّص الفوارق الاجتماعيّة، وتتلاشى العداوة والكراهيّة ويحلّ محلّها الودّ والرّحمة والتّحابب، فقد جاء في
في الحديث القدسي: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي. قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ. قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلاَنًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ، يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي. قَالَ: يَا رَبِّ وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ. قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلاَنٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي، يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي. قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ. قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلاَنٌ فَلَمْ تَسْقِهِ أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي» رواه مسلم وغيره
فقد كان من الممكن أن يطعم الله الجوعان، ويكسي العريان، ويشفي المريض، ويغني الفقير ويرفع الكرب عن كلّ مكروب.... لكن أرادك الله أن تكون أنت سببا لذلك، وإلاّ لما كلّفك ولما أمرك ولما شجّعك بعظيم الأجر والجزاء... رغم علمك بأنّ المال الذي بين يديك هو مال الله، وإنّما يكون الانتفاع الحقيقيّ، بالتقرّب بهذا المال بما يرضي الله تعالى، ألا وهو الإنفاق في سبيله، والمسارعة إلى إرضائه قال تعالى:"آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ"الحديد/7
ولعلّ من أجلّ أنواع الصّدقات، إنظار المعسرين، والتّخفيف عنهم في سداد الدّين 
 قال تعالى: -(وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ*وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)-البقرة/280-281
كما أنّ إنفاق الطيّب من المال خير دليل على طهر النّفس ونقائها وحبّ الخير للغير قال تعالى:( أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)-البقرة/267 فإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وما تصدق أحد بعدل تمرة من كسب طيب إلا أخذها الرحمن بيمينه فتربوا عنده حتى تكون أعظم من الجبل العظيموذكر صلى الله عليه وسلم«سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ -فعد منهم-"وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ"متفق عليه(وقال تعالى: "أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ"التوبة/104

عباد الله بقدر ما أكّد الشّرع الحكيم على صدقات التطوّع بأنواعها،بقدرما أكّد على إخراج الزكاة والنفقة الواجبة، بل إنّها آكد وأفضل من صدقة التطوع لقوله تعالى:"خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا"التوبة/103
فهي مزكية للنفوس ومطهرة من الذنوب وفي الحديث القدسي قال الله تعالى: "وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه"
ومما افترض الله عليه الزكاة والنفقة الواجبة.
فهنيئا للذين ينفقون أموالهم في سبيل الله لا يريدون في ذلك إلا وجه الله، -(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)- [البقرة/261].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد: عباد اللهاتقوا الله تعالى، وأنفقوا مما رزقكم الله، واحذروا من البخل بما آتاكم الله فلقد ضرب الله تعالى في كتابه الكريم أبلغ المثل لحال الذين يكنزون الأموال ويبخلون بها، بقارون قال عز وجل: "إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ" القصص/76
فلما كفر النعمة ورفض الإحسان والشكر قال الله تعالى: "قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي"القصص/78خسف الله به وبداره الأرض " فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ"القصص/81" وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ"فصلت/16
وقال عز وجل: " وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ*يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ"التوبة/34-35
فلا تكونوا من الذين يكنزون الذّهب والفضّة ولا ينفقونها في سبيل الله بالصّدقة الواجبة التي لا تتعدّى ربع العشر ، مقدار زهيد يزكّي مالكم ويحفظه من التّلف والضّياع والسّرقة، ويدخل السّرور على قلوب المحتاجين والمساكين ويمنعهم من السّرقة والتسوّل.جعلني الله وإيّاكم من الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، هذا وصلّوا وسلّموا على نبيّكم خير من صلّى وصام وقام وتصدّق ، كما ربّكم بذلك فقال: "إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا"الأحزاب/56وأكثروا عليه من الصلاة يعظم لكم ربكم بها أجرا، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَىَّ صَلاَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحابك أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعدائك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين، واحمي حوزة الدين.
اللهم انصر دينك وانصر من نصر دينك واجعلنا من أنصار دينك يا رب العالمين.
اللهم فرج هم المهمومين ونفس كرب المكروبين واقض الدين عن المدينين واشف مرضانا ومرضى المسلمين
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم اغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا ولأولادنا ولأزواجنا. ولجميع المسلمين والمسلمات. والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
اللهم نور على أهل القبور من المسلمين والمسلمات قبورهم اللهم واغفر للأحياء ويسر لهم أمورهم.
عباد اللهإِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ*


vendredi 2 septembre 2016

خطبة 2سبتمبر 2016 =الليالي العشر



بعض أقوال المفسرين في هذه الآيات الأربع التي افتتح الله
 سورة اليوم هي سورة الفجر الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ وَالْفَجْرِ*وَلَيَالٍ عَشْرٍ*وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ*وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ*هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ﴾
 هذه الآيات التي افتتح الله سبحانه وتعالى بها سورة الفجر، اختلف المفسرون في تفسيرها، من أقوال المفسرين مثلاً: الفجر معروف، الليالي العشر هي الليالي العشر من ذي الحجة، وبعضهم قال: الليالي العشر من محرم، والشفع والوتر، نوعان من الصلاة، الصلاة ذات الركعات الأربع هي الشفع، والصلاة ذات الركعات المفردة هي الوتر، والليل إذا يسر، أي يسري، هذه بعض أقوال المفسرين في هذه الآيات الأربع التي افتتح الله بها سورة الفجر.
أما على القول الأول الذين يقولون: المراد بالليالي العشر عشر ذي الحجة؛ فلأن عشر ذي الحجة أيام فاضلة، قال فيها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء ).
وليس في ليالي السنة عشر ليال متتابعة عظيمة مثل عشر ذي الحجة التي هي وقت مناسك الحج ، ففيها يكون الإحرام ودخول مكة وأعمال الطواف ، وفي ثامنتها ليلة التروية ، وتاسعتها ليلة عرفة وعاشرتها ليلة النحر .
﴿ وَالْفَجْرِ*وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾
 ما علاقة الفجر بالليالي العشر والشفع والوتر، والليل إذا يسر؟ أول آيةٍ كونية وآخر آيةٍ كونية، وبينهما آياتٌ لا علاقة لها بالكون، فإذا قلنا وبالله المستعان، والفجر، هذا الفجر الذي نعرفه جميعاً، ما الذي يظهر عظمة الفجر؟ الليل، اركب قارباً بين مدينتين أو بين مدينة وجزيرةٍ ليلاً، تحسُّ بالوحشة بل والخوف، ادخل في غابةٍ ليلاً تحسُّ بالوحشة والخوف، يأتي الفجر فترى به كلَّ شيء تستريح نفسك للفجر وتستأنس به و يأتي بعد طول انتظار.
الفجر له معانٍ كثيرة :
 الفجر له معانٍ كثيرة، معناه الضيِّق الذي جاء في هذه الآية أن الأرض كرة وهي تدور حول نفسها دورةً معتدلة بسرعةٍ تساوي ألفاً وستمئة كيلو متر في الساعة، هذه الدورة المعتدلة حول نفسها مع وجود الشمس، طبعاً سطح الأرض يسير باتجاه الشمس فيتخلى عن ظلمته ويستقبل ضياء الشمس، ولولا دوران الأرض حول نفسها لما كان فجر، ولولا أن شكل الأرض كرةٌ لما كان هذا الفجر الذي يأتي بالتدريج، ولو أن الأرض مكعب وكانت تدور حول نفسها تأتي الشمس فجأةً، ولا يخفى عليكم ما بإشراق الشمس المفاجئ من أضرار، وما لغياب الشمس المفاجئ من أضرار، مجيء الليل بالتدريج ومجيء النهار بالتدريج، فكلمة (والفجر) تعني أن الأرض كرة، وكلمة (والفجر) تعني أن الأرض تدور حول نفسها، وكلمة (والفجر) تعني الشمس، لو أن الأرض تدور حول نفسها وليس هناك شمس، فما قيمة هذا الدوران؟ لا معنى للدوران من دون شمس، ولا معنى للنهار من دون الليل:
﴿ وَمِنْ آيَاتِه اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ﴾
[ سورة فصلت: 37]
﴿ وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ ﴾
[ سورة يس: 37]
 الليل آية والنهار آية، أي من حكمة الله عزَّ وجلَّ أن إشراق الشمس هذه الآية الكبيرة، ومن آياته الشمس، ما كان لك أن تعرفها لولا الليل، حينما تستقبل ضوء الشمس تعرف قيمته بعد أن غاب عنك، وحينما تستقبل دفء الشمس تعرف قيمتها بعد أن حلَّ بك البرد، البرد يظهر لك قيمة الشمس، والظلام يظهر لك قيمة الشمس، ودورة الأرض حول نفسها من معاني الفجر، وكون الأرض كرةً هو الذي يسبب هذا الانسياب اللطيف التدريجي لضوء الشمس، فربنا عزَّ وجلَّ حينما قال: (والفجر)،أي هذه آية كبيرة تجذب النظر، هل فكرنا فيها؟ هل جلسنا جلسةً صباحيةً بعد صلاة الفجر لنفكر في الفجر، ومن آياته الله سبحانه وتعالى أقسم بالفجر، قال: والفجر، فربنا عزَّ وجلَّ يوجه نظرنا في هذه الآية إلى بعض آياته.

خَلَقَ الله سبحانه كل شيء بقدر :
 قال تعالى:
﴿ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾
 كلكم يعلم أن للأرض تابعاً وهو القمر، والقمر يدور حول الأرض دورةً كل شهر، وإذا جمعنا دوراته الاثنتي عشرة تشكل هذه الدورات سنةً قمرية كلكم يعرفها هي رجب وشعبان ورمضان وشوال وذي القعدة وذي الحجة وغيرها، هذه الأشهر القمرية إذا وازنّاها مع الأشهر الشمسية، الأرض تدور حول الشمس دورةً كل اثني عشر شهراً دورة، بين السنة القمرية والسنة الشمسية فرقٌ هو (ليال عشر)، الجو العام جو كون:
﴿ وَالْفَجْرِ*وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾
 أي القمر يدور حول الأرض، وينشأ من دورته سنةٌ قمرية، والأرض تدور حول الشمس وينشأ من دورانها سنةٌ شمسية، وبين السنة الشمسية والسنة القمرية (ليال عشر) هو الفرق، كلكم يعلم أن رمضان في كل عام يقترب عشرة أيام، بعض المفسرين في سورة الكهف فسر قوله تعالى:
﴿ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً ﴾
[ سورة الكهف: 25]
 لو حسبت الفرق بين السنوات الثلاثمئة الشمسية والقمرية لرأيت الفرق بينهما تسع سنوات بالضبط، فهذا النظام الكوني، من جعل هذا التفاضل بين دورة القمر ودورة الأرض حول الشمس، هذا التفاضل مدروس دراسة دقيقة، أي كل شيء بقدر.

الإنسان يعرف الله سبحانه وتعالى من خلال الفكر :
 بعضهم فسر قوله تعالى:
﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾
[ سورة القمر: 49]
 أي السمع والبصر والشمُّ والإحساس وهذه الحواس الخمس، وبعد الأرض عن الشمس، وبعد القمر عن الأرض، وبعد الشمس عن بقية الكواكب، كل هذه المسافات مدروسة بدقةٍ بالغة وبحكمةٍ منقطعة النظير، ولذلك فربنا عزَّ وجلَّ متابعةً للسياق العام لا يمنع أن نقول عشرة ذي الحجة أو عشرة من محرم، ولكن تفسير آخر يؤكِّد ارتباط هذه الآيات بعضها ببعض ويجعلها متناسقةً في موضوعٍ واحد:
﴿ وَالْفَجْرِ ﴾
 هذا النظام الذي ينطوي على شمس وعلى أرضٍ وعلى دورةٍ وعلى شكلٍ كروي وعلى أشعةٍ ذات دفءٍ وذات ضوءٍ وما إلى ذلك:
﴿ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾
 فكر أيُّها الإنسان بهذا النظام البديع الذي جعله الله على نمطين، سنة قمرية وسنة شمسية وجعل بين السنتين تفاضلاً هو (ليال عشر) بالضبط كما وردت في هذه السورة:
﴿ وَالشَّفْعِ ﴾
 أي الزوج، الأرض والقمر شفعٌ، والشمس وحدها وتر، لأن الارتباط دقيقٌ جداً بين الشفع والوتر والليالي العشر والفجر، فالإنسان إن لم يجُل فكره في هذه الآيات كيف يعرفه؟ فالإنسان يعرف الأشياء بحواسّه، تعرف الحرارة بحاسّة اللمس،  ترى الشيء بعينك، تسمع صوته بأُذنك، تحسُّ وجوده بيديك، فالإنسان مزوَّد بحواس يتعرَّف بها على الأشياء، ولكنّه كيف يعرف الله سبحانه وتعالى؟ لا يعرفه إلا من خلال الفكر، الله سبحانه وتعالى بثَّ كوناً معجزاً وخلق فكراً دقيقاً، فإذا أعملت هذا الفكر في هذا الكون عرفت الله عزَّ وجل، وإذا عرفت الله عرفت كل شيء، ابن آدم اطلبني تجدني، فإذا وجدّتني وجدت كل شيء، وإن فِتُّك فاتك كل شيء، وأنا أحبُّ إليك من كل شيء، عندما يذكر ربنا عزَّ وجل يذكر عناوين بعض الآيات الكونية، ألا تعرفون  معي أنَّه لا بدَّ من التفكُّر بها، أن هذه الموضوعات موضوعات للتفكُّر، أنَّك إذا أردت أن تعرف الله فهذه آياته.

الإنسان إذا فكَّر في مخلوقات الله عرف الله :
 ، الله سبحانه وتعالى لا تدركه الأبصار، لا يدرك بالحواس، ولكن يدرك عن طريق التفكير، فالإنسان إذا فكَّر في مخلوقات الله عرف الله:
﴿ وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ ﴾
[ سورة الذاريات: 20]
 آيات، حيثما التفتَّ وجدت آيةً، في حياتك اليومية ملايين الآيات، إذا دخلت إلى بيتك تجد آلاف الآيات، فابنك آية، وكأس الماء الذي تشربه آية، وهذا الطعام الذي تأكله آية، وهذه الفاكهة التي تتفكَّه بها آية، وهذا الدفء الذي تنعم به آية، وهذا الفراش الذي تنام عليه من صوف، آية، هذا القطن الذي حُشيت به وسادتك آية، وهذا الإسمنت وهذا الحديد الذي أُقيم به بناؤك آية:
﴿ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ﴾
[ سورة الحديد: 25 ]
 الأدوات في المطبخ آية، غاز الاشتعال الذي تستخدمه آية، بنتك آية، زوجتك آية
﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾
[ سورة الروم: 21 ]
الليل والنهار آيتان من آيات الله الدالة على عظمته :
﴿ وَالْفَجْرِ ﴾
 وحده آية، لاحظ حتى الحيوانات حينما تشرق الشمس تستيقظ، وحينما تغيب الشمس تعود إلى أوكارها، إلى مأواها، هذا الإشراق تدريجي، ومجيء الليل تدريجي وهذه آيةٌ كبرى من آيات الله:
﴿ وَالْفَجْرِ*وَلَيَالٍ عَشْرٍ*وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ*وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ﴾
 الليل يسير، الليل يسير من خلال دورة الأرض حول نفسها، انظر كيف أن ربنا عزَّ وجل جمع هذه الآيات بآيةٍ في أول الآيات وآيةٍ في آخرها، الأولى هي الفجر، والثانية والليل إذا يسر، أي يطلع الفجر من هنا، ويأتي الليل من هناك.

الآيات القرآنية الكونية أكثر من أن تحصى :
 في ساعةٍ من ساعات النهار ولتكن ساعة الفجر، انظر إلى شرق الأرض تر ضياءً، انظر إلى غربها تر ظلمةً، جاء النهار من هنا، وذهب الليل من هنا، مساءً تعكس الآية، ترى الغرب مضيئاً والشرق مظلماً، أقبل الليل، الليل والنهار آيتان من آيات الله، والشمس والقمر آيتان من آيات الله، وشكل الأرض آيةٌ من آيات الله، وهذا الجو الذي ننعم به آيةٌ من آيات الله فأين تذهبون؟! ما الذي يشغلكم عن التفكُّر بآيات الله؟
﴿ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ﴾
[سورة الجاثية: 6]
﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾
[ سورة الذاريات:21]
﴿ وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ ﴾
 فالآيات القرآنية الكونية أكثر من أن تحصى.

تسمية العقل حجراً لأنَّه يحجز صاحبه عن الأغلاط والانحراف :
 بعد ذلك يقول الله عزَّ وجل:
﴿ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ﴾
 الحجر قال بعض المفسرين: هو العقل، لِم سمي العقل حجراً؟ لأنّه يحجر صاحبه عن الأغلاط، فضع قطعة من اللحم أمام هرّة وهي جائعة فماذا تفعل؟ تثب عليها وتأكلها، العلماء قالوا في عالم الحيوان إثارة واستجابة فقط، أما في عالم الإنسان إثارةٌ ومحاكمةٌ واستجابة، قد تكون جائعاً واللحم في المطعم معروضٌ أمامك ولا تأكله لأنَّه ليس لك، وقد تكون جائعاً والطعام في بيت صديقك، لم يدعُك إلى الطعام فلا تأكل فهناك شيء يمنعك، وما الذي يمنعك عن أن تأخذ مالاً ليس لك؟ هو الحجر أي العقل، وما الذي يمنعك عن أن تنظر إلى امرأةٍ لا تحلُّ لك؟ هو الحجر العقل، وما الذي يمنعك عن أن تقبل مبلغاً غير مشروع؟ هو الحجر العقل، ما الذي يمنعك عن أن تستقلَّ بزوجتك وتنسى أُمَّك؟ هو الحجر العقل، فعندما سمى ربنا عزَّ وجل كلمة العقل حجراً لأنَّه يحجز صاحبه عن الأغلاط، وعن الطغيان، وعن الفساد، وعن الانحراف، وعن التردي في المعاصي، ولذلك:
﴿ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ﴾
 سمّاه الله حجراً، وسمَّاه الله لبّاً:
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾
[ سورة الزمر: 21]
 وسمّاه الله عقلاً، قال: يا رسول الله أأعقلها أم أتوكَّل على الله؟ قال:اعقل وتوكَّل.
 وقد قال عليه الصلاة والسلام: قِوام الرجل عقله.

الإنسان كرَّمه الله عزَّ وجل فجعل له فكراً يستطيع أن يرى به الأخطار قبل أن تقع :
 مثل قد خطر في بالي: الحيوان لا يخاف إلا إذا رأى الخطر بعينه، هذا مستوى متدنٍّ من الحياة النفسية، لا يتّقي الخطر إلا إذا رآه بعينه، ولكن الإنسان كرَّمه الله عزَّ وجل فجعل له فكراً يستطيع أن يرى به الأخطار قبل أن تقع، وهذا تكريم الله عزَّ وجل، فإذا عطَّل الإنسان فكره ولم يُعمله في الكون وواجه الأخطار عند الموت فإذا هو من أهل الجحيم، نقول له: أين عقلك؟ أين فكرك؟! العقل أن تصل إلى الشيء قبل أن تصل إليه، ولذلك فربنا عزَّ وجل قال:
﴿ إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ﴾
[ سورة طه: 15]
 أكاد أُخفيها، حتى يظهر الإنسان وعقله، فإذا واجه الإنسان انهداماً في الطريق فجأةً إما ينجو أو لا ينجو، وإذا كانت هناك إشارات ولافتات وشاخصات على الطرق تدل على وجود تحويلة مثلاً، أو هناك منحدر خطر، أو منعطف خطر، هذه الإشارات إن لم تستخدمها، وإن لم تعبأ بها، وإن لم تنظر إليها لا يسمّى الإنسان عاقلاً، ولا يسمّى مفكِّراً:
﴿ إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ﴾
[ سورة طه: 15]
الخطر، خطر الآخرة لا يُرى الآن بالعين، فالناس الآن يستوون في هذه الحياة، المؤمن وغير المؤمن، المؤمن ساكن في بيت يأكل ويشرب وله عمل، وهذا المرابي يسكن في بيت ويأكل ويشرب وله عمل، والذي لا يبالي بطاعة الله يعيش كما يعيش المؤمن، والذي يعتدي على حقوق الآخرين يعيش كما يعيش المؤمن، الخطر لا يُرى بالعين ولكن الإنسان كرَّمه الله عزَّ وجل عليه أن يرى الأخطار قبل وقوعها، وأن يرى أن لهذا الكون إلهاً ويستحيل على الله عزَّ وجل أن يدع الناس هكذا هملاً:
﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾
[ سورة المؤمنون: 115]
 والأرض فيها قوي وفيها ضعيف، فيها غني وفيها فقير، فيها صحيح وفيها مريض، فيها إنسان أُتيح له كلُّ شيء وإنسان لم يُتح له شيء، إذا كانت الحياة الدنيا هي كل شيء نقول: الخلق فيه نقص، ما ذنب هذا الذي حُرِم من نعمةٍ معيَّنة، ما ذنب هذا الذي حُرم نعمة الأولاد، لمَ حُرم هذا وأُعطي هذا؟ لمَ كان هذا قوياً وهذا ضعيفاً، لمَ كان هذا غنياً وكان هذا فقيراً؟ الحياة من دون آخرة لا يستقيم معناها ولا تكمُل، يأتي يوم الدين يحاسب الغني على ماله، من أين اكتسبه وفيم أنفقه، يحاسب الفقير أصبرت لوجه الله؟ هل دعاك فقرك إلى كسب مالٍ حرام أم تعفّفت؟ يحاسب القوي ماذا صنعت من أجل هؤلاء الضعاف الذين كانوا تحت رعايتك؟، يحاسب الضعيف هل أعنت الناس على حاجاتهم؟ فكل إنسان عندئذٍ يحاسب، فحينما تأتي النتائج في الآخرة متوافقةً مع المقدمات في الدنيا فهذه هي العدالة، ولذلك لا يمكن أن يستقيم معنى الحياة إلا بالإيمان باليوم الآخر.
 
عندما يعرض على الإنسان مبلغ كبير جداً من أجل أن يخون ضميره إن كان طبيباً مثلاً، أو كان محامياً ويقول إني أخاف الله ربَّ العالمين، معاذ الله أن أفعل هذا، فإذا بقي هذا المتعفف فقيراً وانتهت الحياة وليس بعد الحياة حياة ألا يُعدُّ هذا أحمق؟ لكن إذا كان هناك يومٌ آخر وكان هذا التعفف غالي الثمن وقبض هذا الذي قال: إني أخاف الله ربّ العالمين قبض سعادةً أبديةً لا تنتهي نقول: هذه هي العدالة، هذا الذي قال: إني أخاف الله ربّ العالمين، هذا المتعفف عن المال الحرام، هذا الذي أبى أن يخون ضميره، أبى أن يعمل خلاف قناعته، نقول له:
﴿ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ﴾
[ سورة الحاقة: 24 ]
معظم الآيات قرن الله فيها الإيمان بالله واليوم الآخر :
 قال تعالى:
﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ* إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ* فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ* فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ* قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ* كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ﴾
[ سورة الحاقة: 19-24 ]
﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ*آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ*كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ*وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ*وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ*وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ*وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾
[ سورة الذاريات: 15-21 ]
 لو اتبَّعتم كتاب الله من دفته إلى دفته، من البقرة إلى الإخلاص، لوجدتم أن معظم الآيات قرن الله فيها الإيمان بالله واليوم الآخر، لأن الإيمان بالله فقط لا يكفي>


الآخرة هي دار القرار :
 لهذا الكون خالق، فلمَ الفقر؟ ولمَ الضعف؟ لمَ هناك أزمات طاحنة والله غني؟
﴿ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾
[ سورة المائدة: 18]
﴿ وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾
[ سورة المنافقون: 7]
 لم شحُّ الأمطار؟ ولم شحُّ الإنتاج الزراعي؟ و لم هذه الآفات التي تصيب الزرع لم؟ أما هذه معالجات، هذه حياةٌ مؤقتة، حياة جدٍ واجتهاد، حياة كسبٍ، حياة اختيارٍ، والآخرة هي دار القرار، ولذلك فالإمام الشبلي رضي الله عنه قال: قرأت أربعمئة ألف حديـث، ثم استقر على حديثٍ واحد، رأى فيه علم الأولين والآخرين، اعمل للدنيا بقـدر بقائك فيها، واعمل للآخرة بقدر مقامك فيها، واعمل لله بقدر حاجتك إليه، واتق النار بقدر صبرك عليها، أي الموت أمامنا، لا يوجد يوم إلا فيه جنازة أو جنازتان أو ثلاث، أي هذا الذي مات أنا لن أكون مثله، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا.
فالموت تخطّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، هذه هي البطولة، البطولة أن تأتي هذه الساعة وأنت أبيض الوجه، وأنت طاهر القلب، ليس في قلبك غلٌ لأحد، وليس في مالك كسبٌ من حرام، وليس في سلوكك معصيةٌ لله عزَّ وجلَّ:
﴿ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ﴾
[ سورة الحاقة: 24 ]
﴿ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ﴾
 أي هذه الآيات الكونية ألا تكفي أصحاب العقول، يا أصحاب العقول أين العقول؟ عقلُّ الإنسان أن يحجزه عن معاصي الله، لا يعصي الله إلا أحمق، لا يعصي الله إلا غبي، لا يعصي الله إلا إنسانٌ عطَّل فكره، فلذلك:
﴿ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ﴾

حال أهل الدنيا :
والآن حدث الناس بالدنيا تجد آذاناً صاغية، حدثهم عن أسعار العملات، وحدثهم عن موضوعات التجارة، وعن موضوعات البيوت، عن أحدث جهاز للتسخين في البيت، وعن التدفئة المركزية، وكل شيء له علاقة بالرفاهية، ومتع الحياة تجد آذاناً صاغية، أما حدثهم عن الدار الآخرة فيتثاءبون، يعتذرون، لذلك قال الله تعالى:
﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ﴾
[ سورة الكهف: 103-104]
﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾
[ سورة العصر: 1-3]


﴿ أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ*إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ*الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ*وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي*وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ*الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ*فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ*فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ*إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾
 فرعون، والمقصود بكلمة فرعون في هذه الآية فرعون موسى، وفرعون ذي الأوتاد، هذه الأهرامات قال معظم المفسرين: الأهرامات، تأمّل صنعها شيءٌ يكاد يفوق حد التصور، ارتفاعٌ شاهق، أحجارٌ كبيرة، حتى أن بعضهم قال لي: إنَّ في الأهرام شقّاً، فتوجد دراسة رائعة جداً هندسية بحيث لا تدخل الشمس منه إلا في يومٍ واحدٍ من أيام السنة، هو يوم وفاة (ميلاد)؛ من دفن في هذه الأهرام، فهل يمكن أن تعمل شقاً ضيقاً جداً بحيث لا يسمح للشمس إلا أن تدخل فيه في العام مرةً واحدة، فهذا أرقى أنواع الهندسة، حتى الآن الفراعنة حينما حنطوا الموتى لا يعلم سرَّ تحنيطهم أحد، في الأهرامات قمح زرع فنبت، وكان قد خزن أكثر من سبعة آلاف عام، وفي الأهرام قبور وفيها أجسادٌ محنَّطة، أي قبل سنتين أو أكثر قرأت في الأخبار أن فرعون موسى نقل إلى باريس ليتلقى العلاج، أليس هو محنطاً؟ أصابه بعض التعفن فنقل إلى باريس وتمت معالجة جسده المحنط، وأعيد إلى مصر، ما هذا العلم؟ إنسان قبل آلاف السنين هو هو، فربنا عزَّ وجلَّ قال:
﴿ أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ﴾
 قال: هذه عاد الأولى اسمها إرم، قبيلةٌ كانت جبارةً تعيش بين حضرموت والرَبع الخالي، وكانت خيامها على أعمدة وكانت مسيطرة على المنطقة كلها.

الله عزَّ وجلَّ وصف قوة عاد وبطشها وجبروتها وهيمنتها بهذه الكلمات الموجزة :
 قال تعالى:
﴿ أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ*إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ*الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ﴾
 هؤلاء حينما لم يفكروا في هذه الآيات، ولم يعبؤوا باليوم الآخر، والتفتوا إلى شهواتهم وانغمسوا مع ملذاتهم، أصابهم العمى، فطغوا وفسدوا، عندئذٍ استحقوا الهلاك، فجاءت آية الله عزَّ وجلَّ قاطعةً:
﴿ أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ*إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ*الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ﴾
 الله عزَّ وجلَّ وصف قوتها وبطشها وجبروتها وهيمنتها بهذه الكلمات الموجزة:
﴿ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ﴾
 ففي كل عصر يوجد دولة في العالم متفوقة جداً، يقول لك: هذه معها أسلحة ذرية، ومعها قنابل إذا ضربتها على المدن مات الناس فقط، الآن أحدث قنبلة إذا ألقيت على مدينة مات جميع سكانها وتبقى البيوت كما هي والأجهزة كما هي وكل ألوان الرفاهة في المدينة، بيوتها وقصورها ومزارعها ومصانعها وأماكنها العامة وحدائقها كما هي لا يموت إلا الإنسان هذا أحدث ما اخترعه العقل البشري التدميري، هذه الدولة عندها أسلحة كيميائية إذا وضعت في ساحات القتال أصيب الناس بالهوس وبعض الأمراض الوبيلة النفسية، وعندها أسلحة جرثومية وحارقة وخارقة ونفسية، أي أن هذا وصف ربنا:
﴿ أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ*إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ﴾
كل فريق قوي في الدول العظمى يظن أن بيده نهاية العالم كما كانت عاد :
 ربنا عزَّ وجلَّ قال:
﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ﴾
[ سورة يونس: 24]
 الآن كل فريق قوي في الدول العظمى يظن أن بيده نهاية العالم، فلذلك جعلوا خطاً مباشـراً بين واشـنطن وموسـكو وسـموه خطاً أحمر حتى لا يحصل سـوء تفاهم فيدمرون بعضـهم، وهم يظنون أن نهاية العالم بيدهم:
﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً ﴾
[ سورة يونس: 24]
 أمرنا لا أمرهم، (ليلاً أو نهاراً) الأرض كروية، لأن هذا التدمير الشامل سيكون على أناسٍ ليلاً وعلى أناسٍ نهاراً:
﴿ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ﴾
الآية التالية لها خاص ولها عام :
 ربنا عزَّ وجل قال:
﴿ أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ*إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ*الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ﴾
 هذه الآية بالطبع لها خاص ولها عام، فخاصّها ينصبُّ على عاد، وعامُّها ينصبُّ على أيّة جهةٍ قويةٍ في الأرض تزعم أنّها أقوى قوةٍ في الأرض، وأن لا أحد يقف في وجهها.
﴿ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ﴾
 معنى جابوا أي حفروا في الجبال بيوتاً كالجيوب، فليس معنى جابوا أحضروا، لا بل من الجيب، يوجد قصر بالبتراء في الجبل، قاعة الملك حجمها ثلاثون متراً عمقها، وثلاثون متراً ارتفاعها، وثلاثون متراً عرضها، محصورة في الجبل مكعب كامل ضخم، وعلى مدخل هذا القصر الأعمدة والتيجان والزخارف، ولم يوضع في هذا البناء حجر واحد، نحتٌ من الصخر، هذا شيء فوق طاقة الإنسان:
﴿ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ﴾
 فإذا دخلت إلى البتراء وتعمَّقت فيها رأيت بيوتهم ومساكنهم وحماماتهم ونواديهم، وأماكنهم العامة ومدَّرجاتهم:
﴿ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ* وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ ﴾
 الأوتاد أي الأهرامات.

العلاقة بين الطغيان وبين تجاوز الحق :
 ﴿ أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ*إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ*الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ*وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ*وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ*الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ*فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ*فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ*إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾
 يوجد علاقة بين الطغيان وبين تجاوز الحق، فأحياناً الإنسان يطغى على زوجته، لها حدود وله حدود، حينما يطغى على حقوقها يفسدها ويفسد معها، يفسدها قهراً ويفسد معها ظلماً:
﴿ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ﴾
 إذا طغيت على حق من يشتري من عندك فرفعت عليه السعر، أو أعطيته بضاعةً سيّئة، فهذا طغيان، والطغيان كلمة واسعة جداً تلخَّص بكلمةٍ واحدة: تجاوز الحد، إلى هنا حدُّك، تجاوزته، ينبغي أن تعطي هذا الإنسان حقّه، أحجمت عن إعطائه حقَّه طغيت عليه.
 
فالطغيان في هذه الآية يعني بالضبط تجاوز الحد وهذه كلمة واسعة جداً، فقد تؤخذ على مستوى أُسري، تجاوز الحد في معاملة الابن طغيان، وفي معاملة الأجير طغيان، وفي معاملة الجار طغيان، وفي معاملة الشاري طغيان، وفي أيّة معاملة، أنت مدير دائرة وعندك موظَّفون قد تتجاوز الحد في معاملاتهم فهذا طغيان، وكل طغيان فساد، علاقةٌ فاسدة، أي علاقة سيّئة.
العلاقة بين الطغيان وبين الفساد :
 الطغيان يسبب الفساد، فساد ذات البين، فساد الطاغي، فساد الظالم، فالفساد أيضاً كلمة عامة:
﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً ﴾
[سورة القصص:83]
 ولذلك فهناك علاقةٌ بين الطغيان وبين الفساد،
﴿ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ*فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ﴾
 هذه عاد وثمود وفرعون عندئذٍ:
﴿ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ*إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾
 كلمة صب معناها الغزارة، فأحياناً تفتح الصنبور ينزل منه خيط من الماء، أما إذا صببت على هذا الشيء دلواً من الماء تقول: صب. أي الصب بمعنى الغزارة، والسوط بمعنى اللذع، أي عذابٌ مؤلمٌ غزير، عذابٌ مؤلمٌ وغزير في وقتٍ واحد، وهذا يستفاد من معنى:
﴿ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ﴾
كل حركة وسكنة يفعلها الإنسان تحت المراقبة الإلهية :
 قال تعالى:
﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾
 أي إن كل حركاتك وسكناتك، وخواطرك، ونياتك، وطموحاتك، وما تنوي أن تفعله وما تفعله، وما تكنُّه وما تسرّه وما تعلنه، مرصودٌ من الله عزَّ وجل أي مراقب مراقبة دقيقة، أنت تحت المراقبة الإلهية.
 
إذا الإنسان ظنَّ أنّه تحت المراقبة البشرية لا ينام الليل، فكيف إذا كنت تحت الرقابة الإلهية، الذي يعلم السر وأخفى؟ قل ما شئت يعرف بواطنك، ويعرف نياتك، ويعرف خلفيّات القول، وطموحاتك من هذه الدعوة، ومن هذا اللقاء، والذهاب، والنزهة، والسفر، ويعلم كلّ شيءٍ عنك وأنت تحت رقابته:
﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾
 لذلك إذا كانت الزوجة عرفت هذه الآية لا تظلم زوجها، وإذا عرف الزوج هذه الآية لا يظلم زوجته، وإذا عرف صاحب العمل أن هذا العامل مضطّرٌ كيّ يعمل عندك فإذا عرفت الضرورة التي تحمله على العمل عندك واستغلّيت هذه الضرورة وخفَّضت الأجر ورفعت أوقات الدوام إن ربك لبالمرصاد، وإذا شعرت أن هذا الشاري بحاجة إلى هذه الحاجة فهي حاجة ماسة، فرفعت السعر وأخفيت العيب وبعتها بسعرٍ مرتفع إن ربك لبالمرصاد، والله هذه الآية فقط تكفي.
 
والله الذي لا إله إلا هو لو تذوّقنا معنى هذه الآية وحدها تكفي ولانتظمت علاقتنا ببعضنا، علاقة العمل، وعلاقات الوظيفة والبيت والجيران، وأيّة علاقةٍ في الحياة إن ربك لبالمرصاد، الله يرى من الظالم، كثيراً ما أقول للزوجين إن ربك لبالمرصاد، إن كنت تظلمها وتعتدي على حقّها إن ربك لبالمرصاد، وإن كانت تهمل حقك وتعتدي على حقك إن ربك لبالمرصاد، إنّ أخذه أليمٌ شديد:
﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾
[سورة البروج:12]
 الإنسان يجب أن ترتعد فرائصه من هذه الآية، والذي لا يخاف أحمقٌ.

أعلى الناس عند الله منزلةً أخوفهم من الله عزَّ وجل :
 أعلى الناس عند الله منزلةً أخوفهم من الله عزَّ وجل:
﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾
 إذا كنت في جلسة وشعرت بوجود آلة للتسجيل فستنضبط أكثر، فتتوسل إلى صديقك أن يمحو ما سجل عليها من كلامك فلا يمحوها لك ولو من باب المزاح، فبوجود المسجلة تجد نفسك منضبطاً، وإذا كانت هناك صورة وصوت فالانضباط يكون أكثر وخاصة إذا كان تحت الرقابة الإلهية المستمرّة في خلوتك وجلوتك في بيتك، ولذلك من لم يكن له ورعٌ يصدُّه عن معصية الله إذا خلا، لم يعبأ الله بشيءٍ من عمله، هل تصلـّي في البيت صلاةً متقنةً فيها خشوع، كما لو تصلّي إماماً في المسجد؟ إن ربك لبالمرصاد، هل تخفي عيوباً في البيت وتظهر للناس الفضائل؟ إن ربك لبالمرصاد، لذلك عندما يتحقق الإنسان بهذه الآية ينضبط، ويصبح سرّه كجهره، فلا تجد عنده ازدواجية، فله موقف واحد، باطنه كظاهره، وسريرته كعلانيته، ونياته كما يقول، لذلك:
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾
[ سورة الشعراء:88-89]
 الإيمان عفيفٌ عن المحارم، عفيفٌ عن المطامع، فهذا الذي يستفاد من هذه الآية، فإذا الإنسان فكّر في:
﴿ وَالْفَجْرِ*وَلَيَالٍ عَشْرٍ*وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ*وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ﴾
 وتعرَّف إلى الله من خلالها واستقام على أمره وعمل صالحاً سعد إلى أبد الآبدين، وإذا أعرض عن هذه الآيات ولم يعبأ بها واتّبع شهواته وأهواءه:
﴿ أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ*إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ*الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ﴾
 يوجد ارتباط دقيق جداً، إذا الإنسان قرأ القرآن من دون تفكُّر، من دون تدبُّر يجد مقطعاً ليس له علاقة بالآخر:
﴿ وَالْفَجْرِ*وَلَيَالٍ عَشْرٍ*وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ*وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ*هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ *أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ﴾
 رأساً انتقل من الآيات الكونية إلى قصّة، هذه القصة تعني إن هذا الإنسان إذا لم يفكّر في الآيات ولم يعبأ بها ولم يستقم على أمر الله ولم يعمل صالحاً، هذا مصيره كمصير عاد وثمود وفرعون تماماً، وهذا المصير المحقق، فإذا فكَّرت في هذه الآيات تنجو من هذا المصير الأسود.
والحمد لله رب العالمين